الخميس، 24 سبتمبر 2009

الفصل الأول: الأصولية اليهودية داخل المجتمع اليهودي

إن كل يهودي إسرائيلي متوسط الثقافة، على وجه التقريب، يعرف الحقائق الواردة بهذا الكتاب عن المجتمع اليهودي الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن هذه الحقائق غير معروفة لمعظم اليهود وغير اليهود خارج إسرائيل الذين لا يعرفون العبرية وبذلك لا يستطيعون قراءة معظم ما يكتبه اليهود الإسرائيليون عن أنفسهم بالعبرية. وهذه الحقائق نادرا ما تذكر أو توصف بدقة في التغطية الإعلامية الهائلة لإسرائيل في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى. والهدف الأساسي من هذا الكتاب هو تمكين أولئك الأشخاص الذين لا يقرأون العبرية من المزيد من فهم أحد الجوانب المهمة للمجتمع اليهودي الإسرائيلي.
ويشير هذا الكتاب إلى الأهمية السياسية للأصولية اليهودية في إسرائيل، تلك الدولة التي تمارس نفوذاً عظيماً في الولايات المتحدة. والأصولية اليهودية تعرف هنا على نحو موجز على أنها الإيمان بأن الأرثوذكسية اليهودية، القائمة على التلمود البابلي وبقية الكتابات التلمودية ومجمل الشريعة اليهودية (الهالاخاه)، مازالت صالحة وسوف تظل كذلك أبداً. ويؤمن الأصوليون اليهود بان الكتاب المقدس نفسه لا يعتد به ما لم يفسر على النحو الصحيح من خلال كتابات التلمود. ولا توجد الأصولية اليهودية في إسرائيل فقط، ولكن في كل بلد به مجتمع يهودي كبير العدد. وفي بلاد أخرى غير إسرائيل، حيث يشكل اليهود أقلي صغيرة بالنسبة لمجمل السكان، فإن الأهمية العامة للأصولية اليهودية تكون مقتصرة بشكل رئيسي على حشد الدعم المالي والسياسي للأصوليين في إسرائيل. أما أهميتها في إسرائيل فإنها أكبر إلى حد بعيد لأن معتنقيها يستيطيعون التأثير في الدولة بطرق عديدة ويفعلون. وتنوع الأصولية اليهودية في إسرائيل يثير الدهشة. فالكثير من الأصوليين، على سبيل المثال، يرغبون في إعادة بناء الهيكل على "جبل الهيكل" في القدس أو يريدون على الأقل الحفاظ على موقعه، الذي هو الآن مصلى للمسلمين، خالياً من الزائرين، وفي الولايات المتحدة لا يوافق معظم المسيحيين على ذلك، ولكن عددا كبيراً من اليهود الإسرائيليين داخل إسرائيل والذين لا يعتبرون من الأصوليين يتفقون على ذلك، ويؤيدون هذا المطلب، ومطالب مشابهة، وبعض أنواع الأصولية اليهودية تمثل خطراً يفوق الأنواع الاخرى إلى حد كبير. والأصولية اليهودية ليست قادرة على التأثير فقط على السياسات الإسرائيلية التقليدية ولكنها قادرة أيضاً على التأثير على السياسات الإسرائيلية النووية. ونفس عواقب الأصولية التي يخشاها الكثير من الأشخاص في بلدان أخرى يمكن أن تحدث في إسرائيل.
إن أهمية الأصولية في إسرائيل يمكن فهمها فقط في سياق المجتمع اليهودي الإسرائيلي وكجزء من إسهام الديانة اليهودية في الانقسامات الداخلية للمجتمع. وتناولنا لهذا الموضوع الواسع يبدأ التركيز على الوسائل التي من خلالها يقوم المراقبون المطلعون بتقسيم المجتمع اليهودي الإسرائيلي سياسياً ودينياً. وبعد ذلك سوف نمضي قدماً في شرح أسباب تأثير الأصولية اليهودية بدرجات متفاوتة على اليهود الإسرائيليين الآخرين، مما يسمح لليهود الأصوليين بالحصول على قوى سياسة، في إسرائيل أكبر من حجمهم الحقيقي من حيث العدد.
أن التقسيم الثنائي المعتاد للمجتمع اليهودي الإسرائيلي يعتمد بشكل جوهري على إدراك أن اليهود الإسرائيليين يتميزون بدرجة عالية من الأيديولوجية، ويتضح ذلك إلى حد بعيد من خلال نسبة التصويت المرتفعة، والتي تزيد عادة على 80%، وفي انتخابات مايو 1996، شارك في التصويت ما يزيد على 90% من اليهود العلمانيين الأفضل تعليما والأكثر ثراء واليهوزد المتدينين من كل فئات التعليم والدخل، وبعد استبعاد العدد الكبير من اليهود الإسرائيليين الذين يقيمون خارج إسرائيل (ما يزيد على 400000 فرد)، والذين لم يصوت معظمهم، يمكن القول دون أدنى شك أن كل من له حق التصويت في القطاعين اللذين يمثلان المجتمع اليهودي الإسرائيلي، أدلى بصوته في الانتخابات. إن معظم المراقبين السياسيين الإسرائيليين يفترضون الآن أن اليهود الإسرائيليين ينقسمون إلى فئتين: إسرائيل (أ) وإسرائيل (ب). ويشار إلى إسرائيل (أ) غالباً بـ "اليسار" الذي يمثله سياسياً حزباً العمل وميرتس، وإلى إسرائيل (ب) بـ"اليمين" أو "اليمين والأحزاب الدينية" ويتكون من كل الأحزاب اليهودية الأخرى. وكل إسرائيل (أ) تقريباً والغالبية العظمي من إسرائيل (ب) فيما عدا بعض اليهود الأصوليين، تعتنق الأيديولوجية الصهيونية بقوة والتي تتلخص في أن كل أو على الأقل الغالبية العظمي من اليهود يجب أن يهاجروا إلى فلسطين باعتبارها أرض إسرائيل، والتي تنتمي إلى كل اليهود، ويجب أن تكون دول يهودية. ومع ذلك فهناك عداء متزايد بين هذين القطاعين للمجتمع الإسرائيلي. وأسباب هذا العداء عديدة، والسبب المرتبط بهذه الدراسة هو أن إسرائيل (ب)، متضمنة أعضاءها العلمانيين، تتعاطف مع الأصولية اليهودية بينما إسرائيل (أ) ليست كذلك. الاجتماع بالجامعة العبرية، بيانات خاصة بالتصنيف الديني للمجتمع اليهودي الإسرائيلي، ومن خلال الاستشهاد بالعديد من الدراسات البحثية، بين كيمرلنج بشكل قاطع أن المجتمع اليهودي الإسرائيلي منقسم حول القضايا الدينية بدرجة أكبر مما يعتقد عادة إلى حد بعيد خارج إسرائيل، حيث تسود مفاهيم وجود أشياء "مشتركة بين كل اليهود".
ومن خلال الاستعانة بالبيانات الواردة في إحدى دراسات استطلاع الرأي والتي قام بها معهد جوتمان الذائع الصيت والتابع للجامعة العبرية في القدس، يشير كيمرلنج إلى أنه بينما أفاد 19% من اليهود الإسرائيليين بأنهم يصلون يومياً، أعلن 19% آخرين بأنهم لم يدخلوا المعبد تحت أي ظرف من الظروف.
ومن خلال تأثرهم بتحليل معهد جوتمان ودراسات مشابهة، توصل كيمرلنج وباحثون آخرون إلى أن إسرائيل (أ) وإسرائيل (ب) تحتوي على أشخاص يعتنون وجهات نظر معارضة تماماً للديانة اليهودية، وهذا صحيح بالتأكيد.
على نحو أكثر عمومية، يمكن تقسيم الموقف من الدين في المجتمع اليهودي الإسرائيلي إلى ثلاثة أقسام: اليهود المتدينون الذي يلتزمون بتعاليم الدين اليهودي، كما يحددها الحاخامات الأرثوذكس، والكثير منهم يركزون على الشعائر أكثر من تركيزهم على جوهر الإيمان، (عدد اليهود الإصلاحيين والمحافظين صغير في إسرائيل) ويقوم اليهود التقليديون بالحفاظ على بعض التعاليم المهمة للديانة اليهودية بينما يقومون في نفس الوقت بانتهاك التعاليم غير الملائمة من وجهة نظرهم ويقدسون الحاخامات والدين. وربما يقوم العلمانيون في بعض الأحيان بدخول المعابد ولكنهم، لا يكنون أي احترام للحاخامات أو للمؤسسات الدينية، والخط الفاصل بين اليهود التقليديين واليهود العلمانيين في الغالب يفتقد الوضوح، ولكن تشير الدراسات إلى أن 25 إلى 30% من اليهود الإسرائيليين هم من العلمانيين، و50 إلى 55% من التقليديين وحوالي 20% متدينون وينتمي اليهود التقليديون على نحو واضح إلى كل من إسرائيل (أ) وإسرائيل (ب).
وينقسم اليهود الإسرائيليون المتدينون إلى مجموعتين مختلفتين ويسمي أعضاء الجماعة الأكثر تطرفاً "أو تشدداً" منهما "الحريديم". (وهي جمع لكلمة "حريدي" بمعنى الذي يخشي الله أو المتقي). أما أعضاء الجماعة الأكثر اعتدالا فيطلق عليهم اليهود المتدينون القوميون.
ويطلق أحياناً على اليهود المتدينين القوميين "ذوي الطواقي المشغولة" نسبة إلى ما يضعونه فوق رؤوسهم. أما الحريديم فإنهم يرتدون عادة أغطية رأس سوداء ولكنها لا تكون مشغولة أبداً، أو يرتدون قبعات سوداء. ويرتدي اليهود المتدينون القوميون عادة الملابس العادية التي يرتديها بقية أفراد الشعب الإسرائيلي بينما يرتدي الحريديم دائما الملابس السوداء.
وينقسم الحريديم في حد ذاتهم إلى حزبين: الأول، يسمي ياهدوت هاتوراه "أي يهود التوراة" وهو حزب الحريديم الاشكناز القادمين من أوروبا الشرقية. (الاشكناز عموماً هم اليهود من أصل غربي)، وحزب ياهدوت هاتوراه عبارة عن ائتلاف من جماعتين.
الحزب الثاني للحريديم هو حزب شاس، وهو حزب الحريديم الشرقيين الذين يعود أصلهم إلى الشرق الأوسط.
(والفرق بين مجموعتي الحريديم سوف يناقش على نحو أكثر تفصيلاً في الفصل الثالث). واليهود المتدينون القوميون منتظمون فيما يسمي بالحزب الديني القومي منتظمون فيما يسمي بالحزب الديني القومي (NRP). ومن خلال تحليل التصويت الانتخاب لعام 1996 وإجراء بعض التعديلات الضرورية، نستطيع أن نقدر النسب المئوية لشعبية هاتين المجموعتين من اليهود المتدينين.
ففي انتخابات 1996 حصل الحزبان المنتميان للحريديم معاً على 14 مقعداً من إجمالي عدد مقاعد الكنيست البالغة 120 مقعداً، فحص لشاس على عشرة مقاعد وياهدوت هاتوراه على أربعة مقاعد. أما الحزب الديني القومي ففاز بتسعة مقاعد، وأقر بعض اليهود الإسرائيليين بأنهم صوتوا لصالح شاس لأن التمائم والتعويذات التي وزعها الحزب تكون صالحة فقط بعد التصويت "الصحيح".
علاوة على ذلك فإن بعض أعضاء الحزب الديني القومي وأنصارهم اعترفوا بأنهم صوتوا لصالح أحزاب علمانية يمينية. وعلى كل حال، فإن الحريديم يشكلون غالباً 11% من عدد سكان إسرائيل و13.4% من اليهود الإسرائيليين وأنصار الحزب الديني القومي يمثلون حوالي 9% من عدد السكان و11% من اليهود الإسرائيليين.
والمعتقدات الأساسية للمجموعتين من اليهود المتدينين تحتاج إلى بعض التفسير التمهيدي. فكلمة "حريدي" هي كلمة عبرية شائعة تعني "الخائف" وخلال التاريخ اليهودي المبكر، كانت تعني "خشية الله" أو تجاوزا "التقي" وفي منتصف القرن التاسع عشر تم استخدامها، أولاً في ألمانيا والمجر وبعد ذلك في أجزاء أخرى من الشتات، كاسم لحزب اليهود المتدينين الذين يعارضون أي اختراع حديث "أي بدعة". وظهر الحريديم الاشكناز كمجموعة رجعية تعارض التنوير اليهودي عموماً، وبشكل خاص أولئك اليهود الذين يرفضون الخضوع لسلطة الحاخامات والذين أدخلوا البدع في العبادة اليهودية ونمط الحياة اليهودي. ومن خلال رؤيتهم لقبول كل اليهود تقريباً لهذه البدع، كان رد فعل الحريديم أكثر تطرفاً وحرموا أي ابتكار "أو بدعة". ويصر الحريديم حتى اليوم على الالتزام الصارم بالهالاخاه (الشريعة اليهودية) ومن الأمثلة الدالة على معارضتهم لأي ابتكار إصرارهم على ارتداء الزى الأسود الذي أشرنا إليه آنفا والذي كان يرتديه يهود شرق أوروبا حينما شكل الحريديم الحزب الخاص بهم.
وقبل ذلك الوقت كان اليهود يرتدون مختلف الأزياء وكانوا في الغالب لا يختلفون في ملابسهم عن جيرانهم. وبعد فترة وجيزة، كان كل اليهود تقريباً فيما عدا الحريديم يرتدون ملابس مختلفة. علاوة على ذلك، لم تلزم الشريعة اليهودية (الهالاخاه) اليهود بأن يرتدوا ملابس سوداء، ولا بأن يرتدوا معاطف سوداء ثقيلة وقبعات مبطنة بالفرو في الصيف الحار ولا في أي وقت آخر، ومع ذلك فإن الحريديم في إسرائيل يواصلون فعل ذلك، من أجل الاعتراض على البدع، ويصرون على استمرار الزى الذي أن يتم ارتداؤه في أوروبا في حوالي عام 1850. وكل الاعتبارات الأخرى بما فيها اعتبارات الطقس، باطلة.وعلى النقيض من الحريديم، قام اليهود المتدينون القوميون بالحزب الديني القومي بالتصالح مع المعاصرة في بداية العشرينيات حينما ظهر الانشقاق بين التجمعين الكبيرين من اليهود المتدينين للمرة الأولى في فلسطين، وهذا يمكن أن يلاحظ بشكل واضح في ملابسهم التقليدية باستثناء غطاء الرأس الصغير (القلنسوة) والأمر الأكثر أهمية يتمثل في سبيل المثال الكثير من التعاليم الخاصة بالمرأة، ولا يتردد أعضاء الحزب الديني القومي في قبول النساء بمواقع السلطة في كثير من تنظيماتهم، وفي الحزب نفسه. وقبل انتخابات 1992، و1996 قام الحزب الديني القومي بنشر وتوزيع إعلان يحتوي على صور فوتوغرافية لمختلف الشخصيات العامة تحتوي على بعض النساء اللائي يؤيدن الحزب كما ظهرت النساء في الدعاية التليفزيونية بدرجة أكثر كثافة.
أما الحريديم فإنهم لم ولن يفعلوا، فحتى عندا قرر الحريديم، الذين يحرمون مشاهدة التليفزيون على أنفسهم، أن يقدموا بعض البرامج الانتخابية التليفزيونية الموجة لليهود الآخرين، أصروا على أن يكون كل المشاركين فيها من الذكور، وأثناء الحملة الانتخابية لعام 1992، قام محررو إحدى المطبوعات الحريدية الأسبوعية باستشارة الرقيب الحاخامي بشأن نشر أو عدم نشر إعلان الحزب الديني القومي المشار إليه آنفا. وأمر الرقيب الحاخامي الصحيفة بأن تنشر الإعلان، ولكن مع شطب كل صور النساء. واستشاط الحزب غضباً وقام بمقاضاة الصحيفة بتهمة السب والتشهير وطالب بالتعويض أما محاكم إسرائيلية علمانية متجاهلا تعليمات الحاخامات الحريديين بعدم استخدام المحاكم العلمانية لتسوية النزاعات بين اليهود.
إن التصالح اليهودي الديني القومي مع الاتجاه المعاصر فيما يتعلق بالنساء هو أمر بالغ التعقيد من نواح عديدة، فالشريعة اليهودية تحرم على اليهود الذكور الاستماع إلى غناء المرأة سواء في مجموعة أو على نحو منفرد بصرف النظر عما يغني. وهذا منصوص عليها بشكل مباشر في تعالم الهالاخاه التي تقول إن صوت المرأة عورة.
وتم تفسير ذلك لاحقاً من خلال تعاليم الحاخامات على أن كلمة "صوت" تعني غناء وليس حديث المرأة، وهذا الأمر الذي نشأ في التلمود، يوجد في كل نصوص الشريعة اليهودية، فاليهودي الذي يستمع عمداً إلى غناء امرأة يرتكب إثما يعادل الزنى أو الفسوق. والغالبية العظمي من أعضاء الحزب الديني القومي الملتزمين، يستمعون إلى غناء المرأة، وبذلك فهم يرتكبون "الزنى" بشكل روتيني. وبعض أعضاء الحزب الديني القومي الأكثر تشدداً، وخاصة ضمن مستوطني الضفة الغربية، لم يفكروا مليا في هذه المشكلة فقط ولكنهم أيضاً حاولوا حل مشكلة التكيف من خلال استنباط حلول مبتكرة، ففي أوائل التسعينيات، قام بعض المستوطنين بإنشاء محطة إذاعية جديدة، وهي عروتس 7، أو القناة 7. ولكي تكون المحطة ناجحة وتجذب أكبر عدد من اليهود الإسرائيليين، أدرك المستوطنون أن أغاني المغنين الذائعي الصيت، وبعضهم من النساء، يجب أن يتم بثها، ومع ذلك رفض الرقيب الحاخامي السماح بخرق الشريعة حيث يستمع الذكور لغناء الإناث، وبذلك يرتكبون جريمة "الزنى". وبعد الكثير من المشاورات مع الرقيب، اقترح المستوطنون حلا حظي بالقبول ومازال يستخدم حتى اليوم، فيقوم الرجال بغناء الأغاني الشهيرة للمطربات وبعد ذلك يتم تحويل الأصوات إلكترونيا إلى الطبقات الصوتية النسائية، ويتم بثها عبر القناة 7. وهناك جانب من الجمهور التقليدي يشعر بالرضا عن هذا الحل النفعي، أما الحاخامات المثقفون بالحزب الديني القومي فيصرون على أن استماع الرجال إلى غناء النساء لا غبار عليه.
وقام الحريديم برفض وإدانة هذا التكيف وحتى اليوم يرفضون الاستماع إلى القناة 7. والأمر الأكثر أهمية، أن الحريديم بعد زيادة قوتهم السياسية إلى حد ما في انتخابات 1988، كانوا قادرين على فرض موقفهم في هذا الشأن على الدولة ككل من خلال فرض التغيير على الجلسة الافتتاحية بالكنيست. وكانت مراسم الافتتاح في السابق تبدأ بغناء نشيد إسرائيل القومي "الهاتيكفاه"، من خلال مجموعة من الرجال والنساء. وبعد انتخابات 1988، ونزولا على رغبة الحريديم، قام مغن رجل بالغناء بدلا من المجموعة المشتركة وبعد انتخابات 1992، التي فاز فيها حزب العمل، قامت مجموعة من المتشددين العسكريين بغناء النشيد.
كيف يمكن للحريديم، الذين يشكلون مجرد نسبة صغيرة من المجتمع اليهودي الإسرائيلي، سواء وحدهم أو بمساعدة الحزب الديني القومي، أن يفرضوا مشيئتهم على بقية المجتمع؟ الإجابة بسيطة تتمثل في أن كلا من حزبي العمل والليكود يتملقان الحريديم للحصول على مساندتهم السياسية، وهذا التفسير غير كاف، فهذا التملق قد استمر فيما بين 1984، 1990 أثناء الوقت الذي كان فيه العمل والليكود يشكلان ائتلافاً، وكانت مداهنة الحريديم من أجل ضمان انحيازهم ليست لها ضرورة سياسية، علاوة على ذلك، فإن التفسير الحالي لا يأخذ في الاعتبار، بدرجة كافية، النزعة الخاصة لكل الأحزاب الدينية، التي اعتبرت أصولية منذ عام 1980، للانجذاب نحو الليكود وأحزاب يمينية علمانية أخرى، وهذه الصلة، خاصة بين الليكود والأحزاب الدينية المتشددة، والتي تقوم على نظرة مشتركة للعالم، هي لب السياسة الإسرائيلية (وهذه الصلة تناظر تلك الصلة الموجودة بين الأصوليين المسيحيين والمسلمين وأحزابهم اليمينية العلمانية).
والنموذج البسيط نسبياً للحزب الديني القومي يعبر عن ذلك بشكل جيد، فالحزب الديني القومي يعترف على الرغم من عدم إتباعه لذلك دائما، بنفس سلطات الهالاخاه كما تفعل الأحزاب الحريدية، والحزب الديني القومي يعتنق دائما نفس الأفكار المتصلة بالماضي اليهودي، وعلى نحو أكثر أهمية، تلك المتصلة بالمستقبل حينما تنتصر إسرائيل على أعدائها من غير اليهود.
والفروق بين الحزب الديني القومي والحريديم تنبع من إيمان الحزب بأن الخلاص قد بدأ وسرعان ما يكتمل من خلال المجيء الوشيك للمسيح. أما الحريديم فإنهم لا يشاركون الحزب هذا الاعتقاد، ويؤمن الحزب الديني القومي بأن هناك ظروف خاصة عند بداية الخلاص تبرر التخلي مؤقتاً عن المبدأ مما يساعد على التعجيل بعملية الخلاص، وتأييد الحزب في بعض المناسبات للخدمة العسكرية لمعلمي التلمود هو مثال لذلك، وهذه الأفكار التحريفية للحزب قد تعرضت للتقويض منذ السبعينيات من خلال اتساع تأثير النفوذ الحريدي على أعداد متزايدة من مؤيدي الحزب الديني القومي الذين عارضوا الخروج على تعاليم التلمود الصارمة وفضلوا المواقف الحريدية، وهذه العملية قد توازنت إلى حد ما مع تصاعد مكانة مستوطني الحزب الديني القومي الذين ينظر إليهم كرواد للفكر المسياني "المتمثل في الخلاص وظهور المسيح"، حتى على الرغم من أن اغتيال رابين، رئيس الوزراء الراحل، على يد مسياني ربما يكون قد أدي إلى تزايد مكانة الحريديم على نحو مؤقت.
إن النفوذ الديني المؤثر على الجناح اليميني الإسرائيلي لإسرائيل (ب) يعزي إلى طبيعته العسكرية ونظرتهما المشتركة نحو العالم. فاليهود الإسرائيليون اليمينيون العلمانيون المشبعون بالروح الحربية يعتنقون وجهات نظر سياسية ويتحدثون بلغة مشابهة لتلك الخاصة باليهود المتدينين.
وبالنسبة لمعظم أتباع الليكود، فإن "للدم اليهودي" هو السبب في أن اليهود يحتلون منزلة مختلفة عن غير اليهود، بمن فيهم بالطبع المواطنون الإسرائيليون غير اليهود، والذي يخدمون في الجيش.
وبالنسبة لليهود المتدينين، فإن دم غير اليهود ليس له قيمة جوهرية، وبالنسبة لليكود، فإن له قيمة محدودة، واستخدام مناحم بيجن البارع لتلك اللغة التي تتحدث عن الأغيار جلبت له الأصوات والشعبية، وهذا هو مربط الفرس. فالفرق بين العمل والليكود يتمثل في اللغة ولكنة فرق مهم لأنه يكشف عن جانب من نظرتهما إلى العالم. ففي عام 1982، على سبيل المثال حينما قام الجيش الإسرائيلي باحتلال بيروت، لم يستطع رابين الذي يمثل حزب العمل، على الرغم من دفاعه عن نفس السياسات التي يحبذها شارون والليكود، أن يقدم أي تفسير لمذابح صبرا وشاتيلا من خلال القول، كما فعل بيجن: "إن الأغيار يقتلون الأغيار ويلقون باللوم على اليهود" وحتى إذا كان رابين نفسه قادرا على قول ذلك، فإنه كان يعلم أن معظم مؤيديه العلمانيين في حزب العمل، الذين يميزون بين الأغيار الذين يكرهون اليهود وأولئك الذين لا يفعلون، لن يغفروا له تلك العبارة. فهم يرفضون تلك اللغة باعتبارها غير صحيحة وضارة.
ويتضح التأثير الديني من خلال تعلق اليمن بأهداف الماضي اليهودي وإصراره على أن اليهود لديهم حق تاريخي في توسيع أراضي إسرائيل إلى ما وراء الحدود الحالية. وعلى نحو أكثر من الإسرائيليين العلمانيين الآخرين، يصر أعضاء اليمين الإسرائيلي على التفرد اليهودي.
وخلال قرون عديدة من وجودهم، كانت الغالبية العظمي من اليهود تشبه على نحو ام حريديم اليوم. وعلى ذلك، فإن أولئك اليهود الذين ينفخون الروح في الماضي اليهودي كدليل على التفرد اليهودي يحترمون إلى حد ما اليهود المتدينين باعتبارهم حملة شعلة ذلك الماضي. والجانب الأساسي لتأكيد اليمين على التفرد يتمثل في بغضه لمفهوم (الاستواء)، بمعنى تساوي اليهود مع الشعوب الأخرى ورغبتهم في الاستقرار، مثل الأمم الأخرى، وبعض الصلات الثقافية بين اليهود والعلمانيين والمتدينين باليمين الإسرائيلي ليست أيديولوجية في جوهرها. والكثير من مؤيدي الليكود، سواء كانوا من أصل سفاردي "شرقي" أو اشكنازي "غربي"، هم من التقليديين الذي ينظرون إلى الحاخامات على أنهم شخصيات تحيط بهم هالة من السحر والقداسة، والمتأثرون بذكريات الطفولة الخاصة بالعائلة الأبوية، حيث يتولي الجد مسئولية التعليم، أما النساء "فيعرفن حدودهن" وعلى الرغم من أن هذه الاعتبارات أكثر تجسداً في الطليعة المتدينة، فإنها تؤثر أيضاً على يهود اليمين العلمانيين. ويقوم اليمين غالباً بالمبالغة في بهاء وتفرق الماضي اليهودي، وخاصة حينما يطالب بالحفاظ على التفرد اليهودي.
ويشترك أعضاء اليمين المتدينون والعلمانيون في المخاوف كما يشتركون في المعتقدات. ففي يوم 6 أكتوبر 1993، في مقال نشر بصحيفة هاآرتس، أشهر الصحف العبرية الناطقة بالعبرية في إسرائيل، يعبر دورون روزنبلام من خلال الاعتماد على مصادر متنوعة، عن ذلك بواسطة الاستشهاد بتصريحات زعماء الليكود التي تمت صياغتها لكي تبين للإسرائيليين مدى أخطار وتهديدات عملية السلام، وفي نفس الوقت الاستمرار في التذكير بأن الليكود هو من بدأ العملية.
وقام روزنبلام بالاستشهاد بالعبارة الآتية لعضو الكنيسة الإسرائيلي عوزي لانداو، الذي تم تعيينه بعد انتخابات 1996 رئيس للجنة الدفاع والشئون الخارجية بالكنيست:
"إذا تم إتباع سياسات رابين تجاه سوريا، فذات صباح سوف يستيقظ اليهود الإسرائيليون على صوت هدير الدبابات السورية وهي تتهادي من مرتفعات الجولان مثل قطعان الأغنام... وعندئذ تهاجم مستوطنات الجليل بقوة نيران أقوي من ذلك التي استخدمت في حرب 1973، وبما أن فكرة استئصال شأفة الإسرائيليين لا تزال في بؤرة اهتمام السوريين. فإن لحظة أي انسحاب إسرائيلي من مرتفعات الجولان هي نفس لحظة اقتراب السكين السوري من رقبة كل مواطن في الجليل... فالسياسة السورية يحكمها قانون ثابت لا يخضع للتغيرات السريعة".
ومن الواضح أن وسائل الإعلام الغربية التي تكيل بمكيالين، والتي من المؤكد أنها كان يمكن أن تفتك بأي مسئول غير يهودي يصف السياسة الإسرائيلية بأنها يحكمها قانون ثابت وغير خاضعة للتغيرات السريعة، تجنبت التعليق على عبارة لانداو.
كما قام روزنبلام أيضاً بالاستشهاد بعبارة عضو الكنيست الإسرائيلي بني بيجن، وأحد كبار قادة حزب الليكود، حينما أعرب عن تخوفه من أن تقوم سوريا بهجوم مباشر على إسرائيل. وهذا التخوف يعبر عنه بشكل شائع بين أعضاء معظم الأحزاب السياسية الإسرائيلية.
ومع ذلك فإن ما يميز إسرائيل "ب" هو، كما أعلن بني بيجن، الاعتقاد بان أهداف الغزو هي نفس "أهداف سفاحي الكيشينيف في قطع رقاب اليهود"(
[1]). وأضاف بيجن أنه في هذه المرة سوف يقوم علماء الذرة بالمساعدة في تنفيذ المشروع السوري. ومقارنة المجتمع اليهودي غير المسلح، الذي كان يمثل أقليه صغيرة في الإمبراطورية الروسية، بإسرائيل وجيشها تمثل موقفاً مشتركاً يتعلق بالماضي اليهودي من خلال الأحزاب الإسرائيلية اليمينية العلمانية واليهود المتدينين. وهذا الموقف لا يضع في اعتباره أي تطور تاريخي. فاليهود تحت أي ظرف من الظروف هم دائما ضحايا حاليون أو مستقبلون للأغيار.
واعتبر روزنبلام الذي ينتمي لإسرائيل "أ" كل هذه الأشياء متنافرة مع بعضها البعض، ومن خلال النظر إلى ما أسماه لانداو بقطيع الأغنام السوري، تساءل: "هل يقصد لانداو بذلك أننا ذئاب؟" ويقدم روزنبلام تحليله عن السبب في عدم قدرة هذه الصورة على الإقناع:
"هناك الكثير من الشكوك العميقة الطويلة الأمد التي تقول أن أعضاء المعسكرات القومية "وهم اليمين العلماني" يستخدمون لغة القوة من أجل إخفاء خوفهم الكامن من العالم بأسره، وهذا الخوف لم يتبدد ولو قليلاً مع إنشاء دولة إسرائيل. ورغم كل أخطائه ينتج حزب العمل أيا كانت الوسائل في أن ينحي جانباً تلك المخاوف وأن يستبدلها بنظره بناءه وبراجماتية نحو العالم. أما الليكود، الذي استأنف هوايته التاريخية فإنه لم يفعل ذلك.
وهؤلاء اليهود المغالون في الوطنية الذين يتحدثون بثقة مطلقة عن قوة وقدرة إسرائيل لفرض مشيئتها على الشرق الأوسط هم الأكثر عرضة لتلك المخاوف.
ونفس هؤلاء الأشخاص الذي يتوقعون قدوم هولوكوست اخرى فور أن تقوم إسرائيل بتقديم أية تنازلات للعرب كانوا يرددون دائما أن الجيش الإسرائيلي إذا لم يقيد بواسطة السياسيين أو الأمريكيين أو اليهود اليساريين فإنه يستطيع أن يجتاح بغداد في غضون أسبوع واحد. وقام "آريئيل شارون بالفعل بإعلان هذا التصريح قبل أسابيع قليلة من حرب أكتوبر 1973"، إن الخوف والثقة بالنفس يتعايشان على نحو متناغم والإيمان بالتفرد اليهودي يعزز هذا التعايش ولا يدرك معظم المراقبين الأجانب أن قطاعاً ضخماً من الجمهور اليهودي الإسرائيلي يؤمن بهذه الآراء المسرفة في الوطنية. إن خليط الشيزوفرينيا المكون من المخاوف الجامحة والثقة المفرطة بالنفس الموجود بوفرة لدي اليمين الإسرائيلي العلماني واليهود المتدينين، يشبه الأفكار التي يعتنقها المعادون للسامية الذين ينظرون إلى اليهود نفس النظرة التي كانوا ينظرون بها إليهم عندما كانوا أقوياء ومن السهل هزيمتهم، وهذا أحد أسباب أن المواقف التي يقفها أفراد اليمين الإسرائيلي من الأغيار وخاصة العرب تشبه إلى حد بعيد مواقف المعادين للسامية من اليهود.
كما يتقاسم اليمين العلماني واليهود المتدينون مخاوف أخرى. فهم يخافون الغرب كما يخافون الرأي العام الداخلي.
كما أنهم يخافون ويدينون اليساريين اليهودي، وهذا المصطلح يتسع ليشمل معظم إتباع العمل، لتفضيلهم العرب على اليهود ولأنهم يعيشون في الأوهام، كما أنهم ينظرون إلى اليسار باعتبارهم خطرين بسبب قدرتهم على جذب أنصار جدد وخاصة من صفوف الصفوة المثقفة.
إن موضوع التساوي "أي تساوي اليهود مع غير اليهود" هو أبرز الموضوعات التي تفصل بين اليمين واليسار، فاليسار يتوق إلى التساوي ويرغب في أن يكون اليهود أمة مثل بقية الأمم. أما اليمين الإسرائيلي على الجانب الآخر فإنهم متحدون في استيائهم من فكرة التساوي وإيمانهم تبعاً لاتجاهات الدين اليهودي بأن اليهود مختلفون عن الأمم والشعوب الأخرى. كما أن تبجيل الماضي اليهودي يعزز هذا التفرد. ويؤمن اليهود المتدينون بان الله خلق اليهود متفردين، أما اليمين العلماني فيؤمن بان اليهود كتب عليهم هذا التفرد من خلال ماضيهم وليس لديهم أي خيار في ذلك.
وهناك سبب آخر ولكنه أقل أهمية للصلة الموجودة بين اليمين العلماني واليهود المتدينين وهو أن هؤلاء قادرون على تقديم حجج "مقنعة" لوجوب السيطرة اليهودية الأبدية على أرض إسرائيل وإنكار حقوق أساسية معينة للفلسطينيين. وهذه الحجج لا توضع فقط في إطار الأمن القومي ولكن من خلال الحق الذي يمنحه الله لليهود لامتلاك هذه الأراضي.
كما أن الباحثين والسياسيين العلمانيين المنتمين لليكود غالباً ما يكونون أبعد ما يمكن عن الماضي اليهودي والقيم اليهودية لكي يتحدثوا أو حتى يفهموا تلك الأمور على نحو مناسب، فالمتدينون فقط هم من يستطيعون تقديم منطق راسخ لسياسيات الليكود، التي تعتمد ليس فقط على الاعتبارات الإستراتيجية القصيرة الأمد ولكنها تعتمد على التاريخ الطويل للعلاقة الخاصة بين الله وشعبه المختار.
وعلى الرغم من تواجدها على نحو مكثف بين أعضاء إسرائيل "ب" فإن نفس هذه الآراء يمكن تبنيها بين أعضاء إسرائيل "أ". وهذه الحقيقة تقدم تفسيراً للتنازلات السياسية التي تقدم للأحزاب الدينية. "كثيراً ما يقوم المراقبون الأجانب بإرجاع هذه التنازلات فقط إلى حجم وتكتل الأحزاب الدينية". وهذه الآراء قد أثرت أيضاً على التاريخ والتعليم اليهودي. ومنذ أواخر الخمسينيات وخاصة بعد حرب 1967 والمؤرخون والباحثون والمعلمون اليهود الإسرائيليون على الرغم من أنهم عموماً أكثر أمانه في كتاباتهم من معظم زملائهم في الشتات فقد قاموا غالباً بتجميل مجتمعات الماضي اليهودي وإلباسها ثوباً رومانسياً كما قاموا بتجنب النقد. وهذا النوع من الكتابات التبريرية كان يمثل اتجاها جديداً. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين والصهاينة الأوائل وآخرون ينتمون إلى الحركات اليهودية المعاصرة ينتقدون بشدة الكثير من جوانب تقليديهم الثقافية الدينية ويحاولون تغيير أو حتى تدمير أجزاء من هذه التقاليد.
ومنذ أواخر الثمانينيات وبعض المؤرخين الأصغر عمراً، ربما بسبب الاستقطاع المتزايد للمجتمع اليهودي الإسرائيلي يقومون بكتابة ونشر بعض الأعمال النقدية التي خلخلت إلى حد ما الاتجاه الدفاعي الساري.
تحتاج المقارنة بين مخاوف ونظرة اليمين العلماني إلى العالم وتلك الخاصة بالحريديم إلى المزيد من الإيضاح، فالمفاهيم الحريدية في رؤية العالم يمكن فهمها فقط كآثار للأزمنة القديمة. وقام مناحم فريدمان وهو أحد المراقبين اليهود الغربيين بدراسة الحريديم في كل من فلسطين تحت الانتداب ودولة إسرائيل حيث قام بوصفه أستاذاً بجامعة بار إيلان الدينية بتقديم وصف ممتاز لمفاهيم الحريديم في مقال بصحيفة "دافار" نشر في 4 نوفمبر 1988 وقام فريدمان بكتابة هذا المقال من أجل شرح أسباب الفشل الانتخابي الذي نتج عن المحاولة غير الناجحة التي قام بها بعض المرشحين على قائمة المتدينين في عام 1988 للدفاع عن القيام ببعض الاعتدال فيما يتعلق بالتعامل من الفلسطينيين. وقام فريديمان بالتوضيح على النحو التالي: "إن العالم الحريدي يدور حول اليهودية. وجوهر الفكر الحريدي يتمثل في مقولة فصل اليهود عن الأغيار. وهذا هو السبب في أن أي تحالف بين حمائم الحريديم وحمائم العمل مستحيل. فليس هناك في الواقع شيء اسمه حمائم الحريديم. والناس الذين يتحدثون عن العالم الحريدي لا يعرفون عادة كيف يقرأون علاماته".
فهم لا يفهمون هذا العالم ولا شخصياته البارزة. والمسافة بين حمائم الحريديم وصقورهم ليست كبيرة، فكلاهما يرى العلاقة بين غير اليهود واليهود كما كانت قبل إنشاء إسرائيل. كما أنهم يفترضون أن غير اليهود واليهود على طرفي نقيض فغير اليهودي يريدون قتل وتدمير اليهود، والفروق الصحيحة التي توجد بين اليهود يجب أن تكون فقط بشأن كيفية الرد على هذه الرغبة غير اليهودية الموجودة دائما. والآن هناك زوج من ردود الأفعال الحريدية المتبادلة على هذا الافتراض المزعوم. فيقول الحاخام شاخ "الأب الروحي لإحدى الجماعتين الحريديتين" أنه بما أن غير اليهود يكرهوننا فإننا نحتاج إلى التزام الهدوء والإحجام عن استفزازهم من خلال عدم تذكيرهم بوجودنا. أما الحاخام لوبوفتشر فيقول إننا يجب أن نكون أقوياء، وهاتان إجابتان تبادليتان، كلتاهما تنشأ عن مفهوم مشترك بأن هناك فجوة تفصل اليهود وغير اليهود. والحاخام شاخ ليس حمامة بنفس مفهوم شولاميت آلوني "الزعيمة السابقة لحزب ميرتس" فآلون حمامة لأنها تؤمن بان الإنسانية يجب أن تؤكد على المساواة بين كل البشر ومقدرة كل البشر والأمم على التواصل. ويؤمن الحاخام شاخ بأن التواصل مع غير اليهود غير ممكن وأنهم يمكنهم فقط أن ينسوا وجود اليهود. ويقول لوبوفتشر بأننا يجب أن نكون أقوياء من أجل الدفاع عن أنفسنا ضد غير اليهود الذين يريدون دائما أن يدمرونا. فالفرق بين الزعيمين يمكن أن يعبر عنه من خلال مواقفهما تجاه اتفاقية السلام مع مصر. فالاثنان يتفقان على أنه ليس هناك سلام ولن يكون أبداً، لأن المصريين يريدون القضاء علينا.
ومع ذلك يضيف الحاخام شاخ قائلاً إننا يجب أن نحاول الحد من "الضحايا اليهود" لأقصي درجة ممكنة من خلا التزام الهدوء. أما رابي لوبوفتشر فيقول: لأن السلام لا يتوافر على أي حال فإننا يجب أن نرفض تقديم أي تنازلات فالحمامة الحريدية لا تؤمن بأي نوع من أنواع السلام وعلى ذلك فإن أي حديث عن ائتلاف محدود برئاسة العمل "ويضم الحريديم لا أساس له".
أكدت التطورات السياسية اللاحقة في إسرائيل بما في ذلك انتخاب نتنياهو في مايو 1996 على صحة تحليل البروفيسور فريدمان ومن منظور حريدي آخر قام الحاخام عوفيديا يوسف الأب الروحي لحزب شاس بتعزيز هذا المقال، فقال الحاخام يوسف في مقال بتاريخ 18 سبتمبر 1989 في جريدة "ياتيد هانعمان" بأنه بما أن إسرائيل ضعيفة جداً لدرجة أنها أيضاً أضعف من أن تحتفظ بكل الأراضي التي قام بفتحها. وباستخدام هذا المنطق يدافع الحاخام يوسف عن قيام إسرائيل بتقديم تنازلات متعلقة بالأرض من أجل تجنب حرب تضيع فيها أرواح اليهود. ولم يرد في كلمات الحاخام يوسف أي ذكر للفلسطينيين ولا حتى أدنى حقوقهم، النظرة الحريدية للعالم تشبه نظرة اليمين الإسرائيلي العلماني. ونظرة سياسي لليكود للعالم التي يؤيدها أتباعه بحماس، هي تماما نظرة اليهود المتدينين، فقد شهدت بعض التحول العلماني ولكنها احتفظت بقيمها الأساسية.
أدي التحالف بين الأحزاب الدينية والعلمانية لليمين إلى انتصار نتنياهو في انتخابات 1996. وخرج هذا التحالف إلى النور على الرغم من الخلافين السياسيين العميقين بين الحزبين. الخلاف الأول يتصل بالديمقراطية وخاصة كما يظهر ذلك من خلال تركيبة الأحزاب الإسرائيلية، أم الخلاف الثاني فيدور حول الصهيونية.
وكل الأحزاب السياسية الإسرائيلية فيما عدا الأحزاب الحريدية كانت ولا تزال منشأة على غرار الأحزاب الموجودة في الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة. ومعظم الأحزاب الإسرائيلية على سبيل المثال تقوم بإجراء انتخابات أولية من أجل اختيار مرشحيها من انتخابات الكنيست، ومع ذلك فإن نظام الحزب الحريدي يكون مختلف عن ذلك وقائماً بذاته وربما يكون مناظراً فقط لما يحدث في إيران فكل الأحزاب الحريدية لديها نظام ثنائي الأطر. الإطار الأقل أهمية ويشتمل على السياسيين النشطين الذين حتى لو كانوا وزراء أو أعضاء في الكنيست فإنهم يعترفون بتواضع على الملأ بأنهم مجرد خدم للمجالس الحاخامية للحزب التي يقومون باستشارتها قبل اتخاذ أي قرار. ولا يقبل أي من السياسيين الحريديم من حزب معين أي توجيه من المجالس الحاخامية لأي حزب حريدي آخر. ومداولات المجلس يتم الاحتفاظ بها سراً وقراراته غير قابلة للمراجعة باعتبارها وحياً من السماء. وعندما يموت أحد أعضاء المجلس فإن خليفته يتم تعيينه بواسطة بقية الأعضاء. وأعضاء المجلس لا ينتخبون بواسطة الحاخامات أو عامة الناس.
كما أن أعضاء المجالس الحاخامية للأحزاب الحريدية يلقبون بواسطة أتباعهم بالحكماء، ويتخذون كل القرارات وينظرون بعين الشك إلى التركيب العادي للحزب باعتباره شيئاً معاصراً وبدعة والنظام الحزبي السياسي المعاصر بما في ذلك العضوية والفروع والانتخابات الداخلية وعناصر أخرى موجودة في الحزب الديني القومي، غائبة تماماً عن الأحزاب الحريدية. والتنافر بين الأحزاب الحريدية الذي يصل أحياناً إلى درجة البغضاء ينبثق من اعتبار "الحكماء" التابعين لكل منهم سلطات نهائية. وقد حافظ النظام الحزبي الحريدي على احتكار الذكور للحزب. وحتى اليوم لم تطأ قدم أية أنثي عتبة السياسة الحريدية. كما أدي التعنت الحريدي إلى الوقوف عقبة في وجه المزيد من تشدد "أو حريدية"-إذا جاز التعبير-قطاعات من المجتمع الإسرائيلي. وكان هناك نظام مشابه للنظام الحريدي شائعاً في المجتمعات اليهودية من القرن الثاني للحقبة المشتركة وحتى ضياع النظام اليهودي الكوميرني بسبب الدول القومية المعاصرة. وكان هدف الممارسات الحريدية ولا يزال يتمثل في الحفاظ على أسلوب الحياة اليهودية كما كان قبل الأزمنة الحديثة. فالأحزاب الحريدية، في محاولتها للحفاظ على النظام اليهودي القديم، كان عليها أن تقف في وجه تيار المعاصرة الذي جرف الحزب الديني القومي. ورد الفعل الحريدي مثل العديد من ردود الأفعال الأخرى، يتخفي دائما في الرغبة الرومانسية للعودة إلى الماضي الذي يقال دائما بأنه أجمل وأكثر أماناً لليهود من الحياة المعاصرة بشكوكها وريبها.
ويكافح المجتمع الحريدي المشرب بأفكاره الخاصة لكي يقمع كل شكوك أعضائه ولكي يؤمن بتحقيق السعادة.
إن الخلاف بين الحريديم ومعظم اليهود الإسرائيليين الآخرين حول الصهيونية هو خلاف معقد. فيتفق الحريديم والصهاينة حول القاعدة الصهيونية المهمة التي تقول بأن معاداة السامية تمثل اتجاها أبدياً لدي غير اليهود بلا استثناء، وأنه يختلف عن ظاهرة الخوف من الأجانب أو بغض الأقليات. وهذا المنظور يشبه بالطبع ما يعتقده المعادون للسامية بالنسبة لليهود. فهذا التشابه يفسر غالباً الاتصال السياسي بين بعض الصهاينة، بدءا من هرتزل والمعادين "المعتدلين" للسامية الذين كانوا يرغبون فقط في طرد التجمعات اليهودية من مجتمعاتهم أو الحد من أعداها دون قتل اليهود". ووجهات النظر المتعلقة بمعاداة السامية والمخاوف التي تدور حولها والتي يشترك فيها اليمين العلماني والحريديم تتفق مع هذه القاعدة المركزية للصهيونية على نحو أفضل من ذلك الخاص بوجهات النظر التي يعتنقها حزب العمل اليساري وأحزاب ميرتس التي تتهم دائما من قبل الليكود بأنها غير صهيونية بما يكفي.
ومع ذلك فإن الأيديولوجية الحريدية تصادم مع الصهيونية حين يتعلق الأمر بمبادئ معينة. وهناك مثالان رئيسيان لذلك يتمثلان في الأهداف الصهيونية لتجميع كل اليهود، أو أكبر عدد منهم في فلسطين وتكوين دولة يهودية. وهذه الأهداف أو العقائد تتناقض مع التفسيرات الحريدية للتلمود والتعاليم التلمودية.
وبسبب هذا التناقض المحسوس أعلن الحريديم ومازالوا معارضتهم القوية للصهيونية حيث يزعمون أن دولة إسرائيل إنما هي مجرد شتات آخر لليهود ويتجنبون استخدام الرموز الصهيونية. فكل حزب سياسي إسرائيلي يبدأ أو يختتم اجتماعاته بإنشاد النشيد القومي الإسرائيلي "الهاتيكفاه" والذي هو في نفس الوقت نشيد الحركة الصهيونية العالمة، أنما الأحزاب والمنظمات الحريدية فإنها لا تفعل ذلك ولكنها تتلو الصلوات اليهودية. وتقوم وسائل الإعلام غالباً بإدانة الحريديم لعدم إنشاد "الهاتيكفاه" في المناسبات الرسمية. وفي كل المؤتمرات الصهيونية الدولية التي عقدت في إسرائيل يتم رفع العلم الإسرائيلي فقط. أما في المؤتمرات الحريدية التي تعقد في إسرائيل فإنه يتم رفع أعلام جميع الدول التي جاءت منها الوفود حسب الحروف الأبجدية.
والمعارضة الحريدية للصهيونية تقوم على التناقض بين اليهودية الكلاسيكية "أو التقليدية" التي يعتبر الحريديم امتداداً لها، والصهوينية. وقد قام العديد من المؤرخين الصهاينة لسوء الحظ بالتعتيم على هذه القضايا. ولذلك يكون من الضروري القيام ببعض الشرح التفصيلي. ففي فقرة تلمودية شهيرة في الجزء المسمي "كيتوبوت" ص 111 والتي تتردد في أجزاء أخرى من التلمود، يقول الله أنه فرض على اليهود ثلاث مواثيق. اثنان منهما يتعارضان بوضوح مع المعتقدات الصهيونية وهما: 1- يجب على اليهود ألا يتمردوا على غير اليهود، 2-يجب ألا يقوم اليهود بالهجرة الجماعية إلى فلسطين قبل مجيء المسيح.
والميثاق الثالث والذي لن نناقشه هنا يفرض على اليهود عدم الصلاة بقوة طلباً لقدوم المسيح، حتى لا يأتي قبل موعده المحدد". وخلال التاريخ اللاحق على التلمود قام الحاخامات بالمناقشة الموسعة للمواثيق الثلاثة. وكان أحد الجوانب الجوهرية لهذه المناقشة هو السؤال القائل ما إذا كانت الهجرة الجزئية إلى فلسطين تعتبر جانباً من الهجرة الجماعية المحرمة أم لا. وأثناء الألف والخمسمائة عام الماضية قامت الغالبية العظمي من أهم حاخامات اليهودية التقليدية بتفسير المواثيق الثلاثة وواصلت اعتبار وجود اليهود في المنفي التزاما دينياً للتكفير عن الآثام اليهودية التي جعلت الله يقوم بنفيهم.
وفي الأعوام الحديثة قام عدد من الباحثين اليهود الإسرائيليين، الذين أنشأوا تاريخاً يهودياً جديداً يتسم بمقدار أكبر من الصدق بإلقاء الضوء على جوهر التفسيرات الحاخامية للمواثيق الثلاثة. ففي كتابه البحثي القيم المسمي "المسيانية والصهيونية والتطرف الديني اليهودي" "الذي نشر بالعبرية في إسرائيل عام 1993"، قدم أفيتزير رافيتسكي، على سبيل المثال تلخيصاً جيداً للتفسيرات الحاخامية للمواثيق الثلاثة بدءاً من القرن الخامس الميلادي "أو الحقبة المشتركة". وفي تحليله قام رافيتسكي بالإشارة إلى أنه في القرن التاسع قام الحاخام صموئيل، ابن هوشانا وهو أحد زعماء يهود فلسطين المهمين بالاستشهاد بما يلي في إحدى صلواته باعتبارها كلمات الله. "لقد أخذت العهد على شعبي بألا يثوروا على المسيحيين والمسلمين، وطلبت منهم أن يلتزموا الصمت حتى أنزل بهم عقابي كما فعلت في سدوم".
وفي القرن الثالث عشر أثناء الفترة التي هاجر فيها بعض الحاخامات والشعراء إلى فلسطين لأسباب دينية كما يقول رافيتسكي قام حاخامات آخرون في بقاع عددية من العالم بالاستشهاد بنظرية المواثيق الثلاثة لتحذير من انتشار هذه الظاهرة الخطرة. وقام الحاخام إليعازر ابن موشيه الزعيم الروحي للتجمع اليهودي في فوتسبرج بألمانيا في القرن الثالث عشر بتحذير اليهود الذين يهاجرون بكثافة إلى فلسطين من أن الله سوف يعاقبهم بالموت. وفي نفس الوقت تقريباً قام الحاخام عيزرا بمدينة جيرونا بإسبانيا وهو احد متصوفة القبالاه المشاهير بكتابة أن اليهودي الذي يهاجر إلى فلسطين إنما يهجر الله الذي يوجد فقط في الشتات، حيث يعيش أغلب اليهود وليس في فلسطين. كما أكد رافيتسكي في كتابه على أن هناك آراء مماثلة وحتى أكثر تطرف استمرت حتى القرن التاسع عشر وقد كتب الحاخام الألماني الشهير يوناثان أيبشوتز في منتصف القرن الثامن عشر أن الهجرة المكثفة إلى فلسطين حتى مع موافقة كل دول العالم هي أمر محظور قبل مجيء المسيح. وفي أوائل القرن التاسع عشر قام موسي مندلسون ومؤيدون آخرون للتنوير اليهودي وكذلك معارضوهم مثل الحاخام رفائيل هيرش الأب الروحي للأرثوذكسية المعاصرة في ألمانيا بالاتفاق على والاستمرار في تحريم الهجرة بناء على الموثيق الثلاثة. وتب هيرش في عام 1837 يقول: إن الله أمر اليهود "بألا يقوموا أبداً بإنشاء دولتهم بأنفسهم ومن خلال جهودهم".
وكان الحاخامات في وسط أوروبا أكثر تطرفاً. وفي عام 1837 في نفس العام الذي حظر فه هيرش على اليهود إعلان دولة يهودية، حدث زلزال في شمال فلسطين قتل الغالبية العظمي من سكان مدينة "صفد" والذين كان الكثير منهم من اليهود، وكانوا قد هاجروا حديثاً إلى فلسطين. وقد أرجع الحاخام موشيه تيتلباوم وهو حاخام بولتدي شهير هذا الزلزال إلى عدم رضاء الله عن الهجرة اليهودية الزائدة إلى فلسطين. وقل تيتلباوم: "ليست مشيئة الله أن نذهب إلى أرض إسرائيل عن طريق جهودنا ومشيئتنا". أم الحاخام موشيه نخمانيدس الذي توفي عام 1270 فقد كان الزعيم اليهودي الوحيد الذي كان يؤمن بأن اليهود يجب عليهم ليس فقط الهجرة ولكن أيضاً أن يقوموا بغزو أرض إسرائيل، وهناك حاخامات آخرون ذوو أهمية في ذاك الوقت وفي أوقات أخرى لمدة قرون عديدة تجاهلوا أو اختلفوا بقوة مع رأي نخمانيدس.
وفي سبعينيات القرن العشرين بعد سبعة قرون من وفاته أصبح نخمانيدس القديس الراعي للحزب الديني القومي ولمستوطني جوش أمونيم. كما زعم أيضاً حاخامات الحزب الديني القومي أن المواثيق الثلاثة لا تنطبق على الأزمنة المسيانية، وأنه على الرغم من أن المسيح لم يأت بعد فإن هناك عملية كونية تسمي بداية الخلاص قد بدأت.
وأثناء هذه الفترة يجب تجاهل بعض التعاليم الدينية السابقة وهناك تعاليم أخرى يجب تغييرها. وعلى ذلك فإن النزاع بين الحزب الديني القومي والحريديم قد تمحور حول قضية ما إذا كان يجب على اليهود أن يعيشوا في الزمن العادي أم في زمن بداية الخلاص. فبعد أن حصلوا على بعض المكاسب السياسية وأصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم إبان انتخابات 1988 شدد الحريديم من معارضتهم المبدئية للصهيونية وللحزب الديني القومي. وفي عام 1989 قام أهم حاخامين حريديين وهما الحاخام شاخ والحاخام يوسف بعقد مؤتمر ضد الصهيونية في بناي براك بإسرائيل، وتم نشر الخطب التي ألقياها والتي كانت مخصصة للتعبير عن معارضتهما المبدئية للصهيونية ومعتقد بداية الخلاص، في الجريدة الحريدية "ياتيدهانعمان" في 18 سبتمبر 1989. كما قام الحاخامان من منظور "الهالاخاه" أيضاً بمعالم الموضوع السياسي الإسرائيلي الحيوية المتعلق بما إذا كان يجب إعطاء بعض أراضي إسرائيل-على حد زعمهم-لغير اليهود أي الفلسطينيين كما قاما أيضاً بتفنيد وجهة نظر الحزب الديني القومي وجوش أمونيم التي تقول بأنه مع بداية الخلاص لا يجب إعطاء أرض إسرائيل لغير اليهود، وأعلن الحاخامان يوسف وشاخ أن اليهود لا يزالون يعيشون في الأزمنة العادية حيث المساعدة المرئية من الله لإنقاذ حياة اليهود غير متوقعة دائماً.
كما قام الحاخام يوسف الشهير بمعرفته الواسعة للهالاخاه، بتقديم تحليل متعمق وأشار على نحو صحيح إلى أن الحاخام شاخ يتفق معه تماماً.
واستهل الحاخام يوسف حديثه بالاختلاف مع الحزب الديني القومي وحاخامات جوش أمونيم الذي يقولون بأن بداية الخلاص وأوامر الله بغزو أرض إسرائيل هي أكثر أهمية من إنقاذ حياة اليهود الذين يسقطون في غمار حرب التحرير. واعترف الحاخام يوسف بأنه في الأزمنة المسيانية سوف يكون الهود أكثر قوة من غير اليهودي ويكون لزاما عليهم فتح أرض إسرائيل وطرد غير اليهود وتدمير الكنائس المسيحية الوثنية، ومع ذلك أكد الحاخام يوسف أن زمن الخلاص المسيحي-أي مجيء المسيح طبقاً للعقيدة اليهودية-لم يأت بعد.
وكتب يقول:
"إن اليهود ليسوا في الواقع أكثر قوة من غير اليهود كما أنهم غير قادرين على طرد غير اليهود من أرض إسرائيل لأن اليهود يخشون غير اليهود، وعلى ذلك فأن أمر الله لم يحن بعد.... فحتى غير اليهود من الوثنيين يعيشون بيننا دون أن نستطيع طردهم أو حتى نقلهم. فالحكومة الإسرائيلية ملزمة تبعاً للقانون الدولي بحماية الكنائس المسيحية في أرض إسرائيل، حتى على الرغم من أن هذه الكنائس هي أماكن وثنية وتعبد فيها الأوثان، يحدث هذا على الرغم من أن ديننا يأمرنا بتحطيم الأوثان وخدمها حتى نجتث جذورها من كل بقاع الأرض وأي مكان نستطيع الوصول إليه... ومن المؤكد أن ذلك يؤدي إلى إضعاف المغزي الديني لفتوحات جيش إسرائيل "في 1967".
إن الفقرة التي استشهدنا بها آنفا تمثل على نحو معبر جانباً من السياسة الواقعية لإسرائيل. فقبل انتخابات 1996 اعتبر كل من بيريز ونتنياهو الحاخام يوسف شخصية سياسية مهمة، وتوددا إليه على نحو غير خفي. وتم ذلك على الرغم من إعلان يوسف أن اليهود حينما يكونون أقوياء بما فيه الكفاية فإنهم ملزمون دينياً بطرد غير اليهود من البلد وتدمير كل الكنائس المسيحية وقد قام اليساريون وأنصار السلام في إسرائيل بالثناء على يوسف وشاخ بموافقتهما على الانسحاب من الأراضي المحتلة ولكنهم أغفلوا ذكر المعتقد الجوهري ليوسف وشاخ. كما أغفلت معظم وسائل الإعلام الغربية الإشارة إلى معظم النقاط الجوهرية في خطاب يوسف، والحقيقة هنا هي أن رأي يوسف-شاخ يمثل أحد جوانب عقيدة الصقور في السياسة الإسرائيلية.
كما اعترف الحاخام يوسف في خطابه أيضاً بتحريم الهالاخاه بيع العقارات لغير اليهود في أرض إسرائيل، ولكنه قصر ذلك على الزمن الذي يكون فيه فعل ذلك لا يعرض حياة اليهود للخطر. وبنفس الطريقة تعامل مع موضوع ما إذا كان يجب على اليهود أن يضعوا ثقتهم فقط في معونة الله أن يجب عليهم اتخاذ احتياطاتهم الخاصة ضد الخطر أو الحرب. وأفاد يوسف بان هذا الموضوع مناظر للسؤال الخاص بما إذا كان يجب إعطاء الطعام لليهود المريض في يوم كيبور "عيد الغفران" لإنقاذ حياته أم لا.
ففي الحالة الأخيرة، كما يقول الحاخام يوسف يجب إعطاء الطعام لليهود المريض حتى إذا اختلف الأطباء مع بعضهم البعض حول مدى خطورة الصيام على حياته. وتبعاً لهذا المنطق أشار الحاخام يوسف إلى أنه حتى لو كان الخبراء العسكريون يختلفون مع بعضهم البعض حول ما إذا كان الانسحاب من بعض الأراضي يمكن أن يمنع الحرب فإن الحكومة يجب أن تأمر بالانسحاب وأشار الحاخام يوسف دون تأثر بذريعة الثقة في الله إلى أن اليهود قد قتلوا في حروب سابقة وأن معجزة مجيء المسيح وحكمة للعالم سوف تحدث دون إراقة دم يهودي واحد. كما أشار الحاخام يوسف أيضاً إلى أن دولة إسرائيل مليئة باليهود الآثمين الذين يغضبون الله. كما استشهد بالعديد من أقوال الحاخامات الذين يتفقون معه في أن المواثيق الثلاثة لا تزال سارية.
إن وجهة نظر الحاخام يوسف لم تثر اهتمام رابين ولا بيريز ولا نتنياهو. فعملية استعراض عمله الواسع التي استغرقت ثلاث صفحات كبيرة من القطع الصغير لم تقنع حاخاما واحداً من الحزب الديني القومي. واستمر الحاخامان يوسف وشاخ، اللذان أصبحا بعد وقت قليل من ألد الأعداء في معارضة الصهيونية ومذهب بداية الخلاص كما واصلا الدفاع عن منظورهما الخاص للأصولية اليهودية وإصدار الأوامر لأعضاء الكنيست الأربعة عشر التابعين لهما في عام 1996 بالولاء لأفكارهما.
وقد قام الحاخام شاخ الأكثر تطرفاً في معارضته للصهيونية من الحاخام يوسف بمنع أعضاء الكنيست المنتمين لحزبه السياسي، ياهدوت هاتوراه من أن يصبحوا وزراء في حكومة نتنياهو الصهيونية. ومع ذلك أمر شاخ أعضاء الكنيست المنتمين لحزبه بتأييد حكومة نتنياهو وكافأ نتنياهو "ياهدوت هاتوراه" من خلال إعطائه زمام السيطرة على وزراء الإسكان فتولي نتنياهو وزراء الإسكان بنفسه وقام بالتوقيع على أي شيء يرسله له نائبه رافيتس المنتمي لحزب ياهدوت هاتوراه. وتم القيام بهذا الإجراء من أجل تجنب الانضمام الرسمي لحزب ياهدوت إلى حكومة صهيونية، وفي نفس الوقت جنبي ثمارها، وعلى النقيض من الحاخام شاخ أمر الحاخام يوسف أتباعه من أعضاء الكنيست بان يصبحوا وزراء في حكومة نتنياهو. وهذه الحقائق تعبر عن الأهمية السياسية لآراء الحاخامين سوف وشاخ.
إن قيام الحاخام يوسف بالتعبير عن رأيه بوضوح في موضوع الأراضي لا يعكس فقط وجهة النظر الحريدية، ولكنه أيضاً يعبر عن جانب كبير من السياسة الخارجية الفعلية لدولة إسرائيل. كما أعلن الحاخام يوسف عن أن اليهود لديهم واجب ديني يتمثل في طرد جميع المسيحيين من دولة إسرائيل فقط إذا كان ذلك لا يعرض حياة اليهود للخطر. كما افترض الحاخام يوسف أن أي تنازلات يهودية تقدم لغير اليهود في دولة إسرائيل يجب أن تقوم فقط على اعتبار أن رفض القيام بذلك يمكن أن يعرض اليهود للخطر.
كما يفضل الحاخام يوسف بالتأكيد الاحتلال الدائم لكل أراضي فلسطين إذا اقتنع تماماً بان ذلك لن يدفع العرب لإيذاء اليهود. كما آمن الزعماء الحكوميون الإسرائيليون مع تأييد كامل من اليهود الإسرائيليين بعد حرب يونيو 1967 بأن العرب غير قادرين على إيذاء إسرائيل ولذلك فإنهم يرفضون تقديم أية تنازلات فقد بعد المعاناة المريرة من الخسائر الجسيمة في حرب أكتوبر 1973 والخوف من حرب أخرى وافقت حكومة دولة إسرائيل، مرة أخرى مع التأييد الكامل من اليهود الإسرائيليين على إعادة سيناء إلى مصر، وفي عام 1983 حتى بعد مذابح صبرا وشاتيلا فكر القادة الإسرائيليون في الاحتلال الدائم لثلث لبنان والهيمنة على الثلثين المتبقيين. وقام شارون بإبرام اتفاقية سلام تقوم على هذين الشرطين مع الحكومة اللبنانية التي لا حول لها ولا قوة. ودفعت حرب العصابات التي قام بشنها اللبنانيون في 1984 و1985، وأدت إلى سقوط العديد من الضحايا الإسرائيليين، دفعت القادة الإسرائيليين إلى التخلي عن هذا المخطط والانسحاب. فالسياسة الخارجية الإسرائيلية، على الرغم من صياغتها وممارستها بواسطة يهود علمانيين تبدو حتى اليوم مشتقة في جانب منها من الماضي الديني اليهودي. والواقع أن الحركة الصهيونية أيضاً التي شهدت تحول علمانياً جزئياً حافظت أيضاً على الكثير من المبادئ الدينية اليهودية الأساسية. فالحاخام يوسف وبن جوريون وسارون وكل السياسية الإسرائيليين الكبار يقفون على أرضية مشتركة في الدفاع علن السياسة التي ينتهجونها.



([1]) هذه مذابح يقال أنها ارتكبت ضد اليهود في فترات التوتر في روسيا القيصرية.

حرب فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948


مقدمة
استمرت حرب فلسطين لمدة تقل عن عشرين شهراً منذ قرار الأمم المتحدة الذي أوصي بتقسيم فلسطين في نوفمبر 1947 وحتى اتفاقية الهدنة الأخيرة بين إسرائيل وسوريا في يوليو 1949.
وأدت هذه العشرون شهراً إلى تغيير الخريطة السياسية للشرق الأوسط إلى الأبد، والواقع أن حرب 1948 يمكن النظر إليها على أنها لحظة حاسمة في تاريخ المنطقة بأكملها، لقد تم تدمير فلسطين العربية وقامت دولة إسرائيل الجديدة وعانت مصر وسوريا ولبنان مرارة الهزيمة، وانكفأ العراق على نفسه وحققت الأردن على أفضل تقدير انتصارا باهظ الثمن، كما فقد الرأي العام العربي غير المهيأ للهزيمة، ناهيك عن هزيمة بهذا الحجم، الثقة في حكامه.
وفي غضون ثلاثة أعوام من نهاية حرب فلسطين تم اغتيال رئيسي وزراء مصر ولبنان والملك عبد الله ملك الأردن، كما تمت الإطاحة برئيس سوريا وملك مصر من خلال انقلابين عسكريين، ولم يؤثر أي حدث في السياسات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين على هذا النحو العميق، كما فعل ذلك الحدث والحروب العربية الإسرائيلية والحرب الباردة في الشرق الأوسط ونشوء الكفاح الفلسطيني المسلح وسياسة صنع السلام وكل تعقداتها هي نتيجة مباشرة لحرب فلسطين.
وتكمن أهمية حرب فلسطين في أنها كانت التحدي الأول الذي يواجه دول الشرق الأوسط حديثة العهد بالاستقلال، ففي عام 1948 كان الشرق الأوسط يتنسم أولى نسائم الحرية بعد التملص من قبضة الاستعمار، وعلى الرغم من أن إسرائيل كانت أحدث دول المنطقة نشأة حينما أعلنت استقلالها في 15 مايو 1948، فإن الدول المجاورة لها لم تكن تكبرها إلا قليلاً، وكانت مصر لا تزال مرتبطة ببريطانيا بعلاقة شبه استعمارية من خلال معاهدة 1936، ومعاهدة 1946 الخاصة بالأردن قد منحت بريطانيا سيطرة واسعة على الجيش وعلى مواردها المالية على نحو جعل المجتمع العالمي لا يرى "استقلالها"، وتم التفاوض على نصوص الاتفاقية مرة أخرى في يناير 1948، وحصلت كل من لبنان وسوريا على استقلالها من فرنسا في 1943 و1946 وحتى العراف الذي عوامل كدولة مستقلة في الفترة المتخللة للحربين العالميتين، فقد بدأ في التفاوض سراً مع بريطانيا عام 1947 لإعادة النظر في معاهدة 1930 من أجل الحد من التواجد البريطاني العسكري في العراق "المستقل".
وفي العالم العربي رسب الحكام الوطنيون المتطلعون إلى الاستقلال في أول اختبار واجههم وأخفقوا في الارتقاء بأفعالهم إلى مستوى أقوالهم وإنقاذ فلسطين من الخطر الصهيوني، وفجر هذا الفشل أزمة الشرعية التي يتمتع به هؤلاء الحكام في كل الدول العربية تقريباً.
ويلعب التاريخ دوراً أساسياً في تكوين الدولة وفي شرعية أصولها ونظامها السياسي في الشرق الأوسط وفي كل مكان آخر، وتتمتع حكومات المنطقة بالكثير من السلطات المباشرة وغير المباشرة على كتابة التاريخ. وكتب التاريخ في المدارس الابتدائية والثانوية تضعها الدولة كما أن معظم الجامعات في الشرق الأوسط تدار بواسطة الدولة ومن يقومون بالتدريس فيها هم موظفون لدى الدولة، ومؤسسات التاريخ القومية والمطابع الحكومة تعمل كأدوات ترشيح تعزل القصص التاريخية غير المعتمدة وتمرر فقط ما توافق عليه الدولة.
ولأن الترقي داخل مؤسسة التاريخ مرتبط على نحو وثيق بمدى الالتزام بالخط الرسمي لم يكن لدى المؤرخين الحافز المطلوب للكتابة النقدية للتاريخ، وبدلاً من ذلك قام معظم المؤرخين العرب والإسرائيليين بالكتابة على نحو قومي غير نقدي، وفي إسرائيل عكس المؤرخون القوميون الرؤية الجماعية للجمهور الإسرائيلي في تصويرهم لحرب فلسطين على أنها معركة يائسة للبقاء وترقي إلى مصاف المعجزات فيما تحقق فيها من نصر، وفي العالم العربي حفلت الروايات التاريخية المكتوبة عن حرب فلسطين بالتبريرات والتفسيرات الذاتية وإلقاء المسئولية على الآخرين ونظريات التآمر، وكل من المؤرخين القوميين العرب والإسرائيليين كان يدفعهم "البحث عن الشرعية"، أكثر ما يدفعهم التفسير الأمين للماضي.
فبركة الأساطير
إن عبء إضفاء الشرعية على المواقف الوطنية في حرب فلسطين في دهاليز السياسة وفي حجرات الدراسة امتزجت كتابة التاريخ بحب الوطن والإخلاص له في الشرق الأوسط، فيما يمكن وصفة بأنه "التاريخ الرسمي" وهذا التدخل السياسي في التاريخ هو جانب مشترك لدى كل من إسرائيل والدول العربية، على الرغم من اختلاف الأسباب على نحو مميز، فالتاريخ الرسمي العربي يسعي نحو تغليب مصالح الدولة من خلال حشد الجماهير المصابة بصدمة هزيمة الجيوش القومية وضياع فلسطين، بينما يسعي التاريخ الإسرائيلي الرسمي إلى إعادة التأكيد على نوع ما من القدر الصهيوني، وفي نفس الوقت يقلل من المسئولية عن الآثار السلبية للحرب.
ودفعت هذه الممارسات الجيل الجديد من الباحثون ذوي النزعة النقدية إلى النظر إلى الروايات التاريخية الرسمية لحرب 1948 على أنها أساطير ملفقة.
وبدءا من أواخر الثمانينيات حملت جماعة من الباحثين الإسرائيليين على عاتقها مسئولية تبديد الأساطير المؤسسة لإسرائيل، والتاريخ الإسرائيلي النقدي الجديد وجد ما يحفزه في الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، حينما سعت حكومة الليكود إلى خلق نوع من التواصل التاريخي بين أعمالها المثير للجدل في لبنان وأعمال الآباء المؤسسين لإسرائيل في حرب 1948.
فمن أجل الدفاع عن تصرفات حكومته، أشار مناحم بيجن رئيس الوزراء إلى سياسة بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل في عام 1948. وزعم أن الفرق الوحيد بينهما هو أن بن جوريون لجأ إلى الحيلة، بينما هو ينفذ سياسته علناً، واستشهد بمخطط بن جوريون لتقسيم لبنان من خلال إقامة دولة مسيحية شمال نهر الليطاني وجهوده التي لا تهدأ لمنع إقامة دولة فلسطينية، وقيامه أثناء حرب 1948 بالتدمير الشامل للقرى والأحياء العربية داخل حدود إسرائيل وطرد سكأنه ا من فلسطين وكل ذلك من أجل إقامة دولة يهودية متجانسة.
وملاحظات بيجن تؤدي إلى إعادة النظر في نشأة إسرائيل، فحرب الاستقلال كما تسمي في إسرائيل، كانت دائما تسمو فوق الخلافات، وبدا الباحثون مدفوعين في كثير من الأحوال بتبرئة اسم بن جوريون والتشكيك في مصداقية بيجن، وفي دراسة هذه الاتهامات المتعلقة بالتدمير الشامل للقرى وطرد السكان العرب.
وساعدهم في ذلك سياسة الأرشيف المفتوح، حيث يسمح بالإطلاع على الوثائق الحكومية بعد مرور ثلاثين عاما عليها. مما أدي إلى توافر كم عظيم من الوثائق عن حرب 1948 وما بعدها، وأثبت الأرشيف الإسرائيلي أنه الأكثر كشفاً عن الحقائق.
وقام "سمحة فلابان" بوضع أجندة العمل، حينما اختصر التأريخ لقيام دولة إسرائيل في عام 1948 إلى سبع أساطير "أو خرافات": إن الصهاينة وافقوا على قرار الأمم المتحدة الخاص بالتقسيم وخططوا للسلام، وأن العرب رفضوا التقسيم وشنوا الحرب، وأن الفلسطينيين غادروا أراضيهم طواعية على أمل العودة المظفرة، وأن الغزو العربي جعل من الحرب أمراً محتماً، وأن إسرائيل التي لا حول لها ولا قوة واجهت الدمار من جانب "جولياث" العربي، وأن إسرائيل كانت تسعي إلى السلام، ولكن لم يستجب لها أي زعيم عربي. وقام باحثون إسرائيليون آخرون بالخوض في هذه الموضوعات على نحو أكثر توسعاً وقدم "بني موريس" أول دليل موثق يثبت مسئولية إسرائيل عن طرد الفلسطينيين من منازلهم، وقام آفي شليم بقلب أسطورة جولياث العربي رأساً على عقب. وكشف النقاب بالمستندات عن مبادرات السلام المقدمة لإسرائيل بواسطة الملك عبد الله ملك الأردن وحتى بواسطة الزعيم السوري "حسني الزعيم"، كما أوضح "إيلان باب" أن بريطانيا كانت أبعد ما تكون عن محاولة منع إقامة دولة يهودية كما يزعم التاريخ الصهيوني، وأنها كانت تسعي إلى منع إقامة دولة فلسطينية، والعواقب الاجتماعية للأساطير المؤسسة للدولة قام "زائيف شترتيل" بالتمحيص فيها. وقد أثارت هذه الأعمال جدالاً واسعاً داخل إسرائيل وأصبح مؤلفوها يشكلون جماعة وعي ذاتي يشار إليها باسم "المؤرخون الجدد" كان هناك دائما اتجاه نقدي في التاريخ العربي لحرب 1948، على الرغم من أن النقد كان دائما في أي بلد موجها نحو تصرفات الدول العربية الأخرى، وكان المفكرون العرب فور انتهاء الحرب التي أطلقوا عليها اسم الكارثة أو النكبة، يسعون إلى تبرير هزيمتهم من خلال تقصير المجتمع العربي بشكل عام، وكان قسطنطين زريقة وساطع الحصري وموسي العلمي وجورج حنا من أكثر هؤلاء المفكرين تأثيرا وانتشرت أعالهم انتشاراً واسعاً في العالم العربي. ويقول وليد الخالدي أنه "على الرغم من ذلك لم تفلح هذه الكتب في استئصال شأفة ودفن أساطيرنا المتعلقة بما حدث في حرب 1948، على الرغم من انتشارها الواسع". وعلى الرغم من أن الخالدي يتعامل مع كل من التاريخ الإسرائيلي والعربي لحرب 1948 عبر نفس المنظور، فإن تلخيصه للأساطير العربية كان أكثر إسهاباً.
ويقول الخالدي: "إن الأسطورة العربية أكثر شيوعاً في أساطير حرب 1948، والأكثر استمراراً حتى اليوم، هي تلك التي تصور القوى الصهيونية على أنها كانت مجرد عصابات إرهابية أحيط بها من كل الجهات بواسطة الجيوش العربية في المرحلة الأولى للحرب "15 مايو-11 يونيو" فوصلت طلائع الجيش المصري إلى الضواحي الجنوبية لتل أبيب واقتربت القوات العراقية المتقدمة من ساحل البحر الأبيض المتوسط غرب قليقلية وطولكرم، ووصل الفيلق الأردني العربي إلى الضواحي الشرقية لتل أبيت، وكل ما كان مطلوباً هو بضعة أيام أخرى لتوجيه ضربة قاضية إلى العدو تحسم الأمر، لكن الضغوط الدولية المتصاعدة إلى تهديدات وأخطار محدقة فرضت الهدنة الأولى على العرب، وعلى ذلك انتزع الكيان الصهيوني النصر من بين أنياب الهزيمة".
واهتم الباحثون الإسرائيليون بالتاريخ العربي، ربما نتيجة لاختبارهم الذاتي لتاريخهم، واعتبر إيمانويل سيفان في تحليله للأساطير السياسية العربية تلك الموضوعات المتكررة مثل الحملات الصليبية كرمز للمعركة الدائرة بين المسلمين العرب وأعدائهم في أرض فلسطين المقدسة والأهمية الرمزية للقدس، كمثالين على ارتباط ذلك بالفكر العربي بعد حرب فلسطين، كما قام "أفراهام سيلا" الذي سبق له دراسة التاريخ العربي لحرب 1948 على نحو أكثر توسعاً بالربط بين الروايات العربية والروايات الإسرائيلية، ويقول أنه مثل الروايات التاريخية الإسرائيلية الأسبق لحرب 1948 "فإن التاريخ العربي لحرب 1948 يتكون بدرجة كبيرة من كتابات غير متخصصة تعتمد على الذاكرة الجماعية أكثر من اعتمادها على التاريخ النقدي" ولأنها لم تفلح في مجاراة إسرائيل عسكرياً أو تحقيق الأهداف القومية العربية الخاصة بتحرير فلسطين، كما يقول سيلا: "فإن تاريخ حرب 1948 هو جزء أساسي من "عمل لم يكتمل" للقومية العربية".

الدول العربية والقومية العربية:
هناك تفسير آخر للإصرار على الأساطير القومية في الروايات التاريخية العربية لحرب 1948 يكمن في التمييز بين القومية الضيقة على مستوى الدولة والقومية الواسعة على مستوى العرب، فالتجربة الاستعمارية في سنوات ما بين الحربين قد انتبهت إلى فكرة المملكة العربية الكبرى التي كانت تشغل ذهن الشريف بن على الهاشمي وأولاده في الحرب العالمية الأولى، وتقسيم منطقة الهلال الخصيب إلى دول منفصلة تحت الانتداب البريطاني والفرنسي كان يعني أن الكفاح القومي أصبح منحصراً داخل حدود الدول العربية الجديدة بدلاً من أن يجري على مستوى الكيان العربي الموحد.
وعلى ذلك تم استخدام التاريخ لغرس الروح الوطنية في نفوس المصريين والعراقيين والأردنيين واللبنانيين والسوريين، وفي نفس الوقت عدم انتزاع هويتهم القومية كعرب، وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الدول في سبيلها للحصول على الاستقلال في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ظهرت الصفوة السياسية مع مصالحها التي كانت ترغب في حمايتها داخل الحدود التي أنشأتها القوى الاستعمارية علاوة على ذلك لم يكن هناك بطل قومي للعالم العربي الموحد، ومناداة الأمير عبد الله بإقامة الاتحاد السوري الأكبر كانت تحمل القليل من الجاذبية الأيديولوجية على المستوى الشعبي، وتم النظر إليها على أنها لعبة من ألعاب التوسع الإقليمي للأردن، ونظر إلى الوحدة العربية فقط على نحو رمزي وخلال الخطاب الرسمي لكل من مصر وسوريا ولبنان والعراق، كما أن الجامعة العربية التي أنشئت في مارس 1945 لم تعمل على تجاوز المصالح الفردية للدول.
ولا يثير الدهشة أن الدول العربية التي خاضت حرب فلسطين باسم الأهداف القومية العربية كانت مدفوعة باهتمامات محلية ومصالح خاصة، وبينما كان كل الزعماء العرب يتحدثون عن حماية فلسطين العربية من التقسيم، فإن الملك فاروق وضع مصالح مصر أولاً، وكذلك الملك عبد الله فيما يتعلق بمصالح الأردن والرئيس شكري القويتلي فيما يتعلق بمصالح سوريا، وكذلك الزعماء الآخرين فيما يتعلق بمصالح بلادهم، وخوفا على الاستقرار الداخلي في بلادهم، قام العديد من الزعماء العرب بإرسال جزء صغير فقط من قواتهم المسلحة إلى "الكفاح المشترك" ضد إسرائيل ولم يخفق رؤساء الأركان العرب في التنسيق بين خطط المعارك فقط، ولكنهم رفضوا بشكل قاطع وضع قواتهم تحت قيادة دولة أخرى، وبدلاً من رفع راية الأمة العربية، أوشكت الجيوش العربية على الصراع حول حجم ومكانة وضع أعلام بلادها حينما تتجمع، في مكان واحد ولم تكن هناك أية دولة ترغب في المخاطرة بقواتها من أجل إنقاذ دولة عربية "شقيقة" تحت الهجوم الإسرائيلي، وحينما اكتفت جميعاً قامت كل دولة عربية بالتفاوض حول اتفاقية الهدنة الخاصة بها مع إسرائيل دون أي اهتمام بتنسيق عربي شامل.
وعندما حان وقت الحساب وفتحت ملفات حرب فلسطين في الخمسينيات أصبحت القومية العربية صاحبة اليد عليا في العالم العربي، فالهزيمة في فلسطين والإطاحة بالأنظمة القديمة المسئولة عن "النكبة" حشدت الرأي العام خلف العمل العربي الموحد، فالقومية العربية الآن أصبح لها بطل شعبي محبوب له كاريزما طاغية، فقد تمتع الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتأييد شعبي راسخ الجذور ليس فقط في وطنه ولكن عبر كل الدول العربية وقام القوميون العرب بصب لعناتهم فوق رأس المصلحة الشخصية الضيقة للزعماء العرب في 1948، ونظروا بعين الغضب إلى من خلفهم في الأردن وسوريا ولبنان والعراق، ومع ذلك لم يثبت القوميون العرب أنهم أكثر فعالية في تحرير فلسطين أو هزيمة إسرائيل من أسلافهم، وأدى ذلك إلى ظهور اتجاهين في كتاب تاريخ الحرب 1948، تبنت الدولة العربية التي تدافع عن نفسها "نهجا اعتذارياً من أجل التأكيد على شرعيتها السياسية" بينما نزع القوميون العرب إلى كتابة "من خلال الاستبطان الذي سعى نحو استخلاص الدروس السياسية وتعزيز التغيير الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي الجذري استعداداً للجولة القادمة ضد إسرائيل".
وكلا النهجين لم يعلق أهمية كبيرة على الدقة التاريخية في تفسير الأحداث.

ميزة المنتصر:
بينما نجد أن هناك مجالاً متاحاً لكتابة عربية جديدة لحرب فلسطين، فإن المفكرين العرب لا يجدون المادة المطلوبة لأداء هذه المهمة، وعلى نحو يختلف عن إسرائيل لا يوجد قانون الثلاثين عاماً الذي يحكم عملية الإفراج عن الوثائق الحكومية والوثائق الخاصة بحرب فلسطين لا تزال غير متاحة في مصر أو الأردن أو العراق أو سوريا أو لبنان، وليس من المتوقع أن يفرج عنها في المستقبل القريب، وأدي ذلك بالكتاب إلى اللجوء إلى المصادر المتاحة مع القيام بتفسير جديد يعكس التغييرات في الواقع السياسي على مدى الخمسين عاماً التي تفصلنا عن أحداث حرب فلسطين.
وقام المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي بكتابة سلسلة من الأعمال التي تتناول نصف قرن منذ قرار الأمم المتحدة الخاص بتقسيم وحرب 1948 بناء على الوثائق التي قام بجمعها بنفسه على مدى السنوات دون وجود إشارات إلى المراجع التي استقي منها معلوماته.
كما استعان الصحفي المصري "محمد حسنين هيكل" بيومياته الخاصة عن الحرب من أجل إعادة تقييم حرب فلسطين وحتى عندما تكون هناك وثائق متوافرة، كما في حالة أرشيف المحكمة الهاشمية في الأردن، فإن الاطلاع عليها يكون مقتصراً على نحو صارم على المؤرخين المعروفين بالولاء من أجل تحرير ونشر الوثائق التي تدعم الخط الرسمي للحكومة الأردنية فيما يتعلق بحرب فلسطين، والباحثون العرب قد لا يجدون أية مساندة في التنقيح النقدي للتاريخ القومي.
والواقع أن العديد من الدول العربية تقوم بتقييد حرية الرأي على نحو يضر بالبحث النقدي، وعلى ذلك بعد مرور عشرة أعوام من نشر أول تاريخ إسرائيلي منقح لحرب فلسطين، لا نجد أية مادة مماثلة تم القيام بها من قبل الباحثين على الجانب العربي.
إن الصلة الموجودة بين سرد التاريخ الوطني والشرعية السياسية للدولة يجعل من تحدي أية حقيقة رسمية أمراً مثيراً للجدل، والنتائج التي استخلصها المؤرخون الإسرائيليون الجدد قد أثارت جدلاً واسعاً في إسرائيل، انتقل من التجمعات الأكاديمية إلى الصحافة والرأي العام ولأن التحدي قد جاء من أكاديميين إسرائيليين، وجدوا مادتهم الأكثر إثارة للجدل في دور الوثائق الإسرائيلية أدي ذلك إلى جعل النتائج التي توصل إلها المؤرخون الإسرائيليون الجدد أكثر إثارة للدهشة بالنسبة للرأي العام داخل إسرائيل.
ومع ذلك فإن حرية هذا الجدل هي مقياس لأمن المؤسسات السياسية الإسرائيلية، إن الأمر يتطلب قدراً كبيراً من الاستقرار السياسي لكي يتم الحفاظ على حرية الرأي عندما يتعلق الأمر بالحقائق الرسمية للدولة، ربما بسبب أن إسرائيل قد خرجت منتصرة من حرب 1948، ومن صراعات عربية إسرائيلية لاحقة، فإن المؤرخين الجدد يمكنهم تحدي إجماع الذاكرة الجماعية الواقعة في أسر المؤرخين التقليديين دون تهديد شرعية المؤسسات المدنية والعسكرية لدولة إسرائيل، إن القول المأثور القائل إن التاريخ يكتبه المنتصرون لا ينطبق هنا، فإذا علمنا أن الدول العربية المهزومة كتبت تاريخها الخاص عن حرب فلسطين، ربما يكون من الأجدر القول أن التنقيح النقدي للتاريخ هو ميزة المنتصرين.
بعد مرور خمسين عاماً على حرب فلسطين، يمر على السلام بين مصر وإسرائيل عشرون عاماً وبين الأردن وإسرائيل أربعة أعوام، وتبادل الفلسطينيون والإسرائيليون الاعتراف ووضع إطار عام للسلام سمح لياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بالعودة لإقامة حكم ذاتي في قطاع غزة والضفة الغربية ومع نهاية أعمال الحرب أدي المستوى الجديد من التعامل بين العرب والإسرائيليين إلى التقليل من شأن الأهداف التي من أجل ها تم وضع التقاليد التاريخية السابقة للصراع العربي الإسرائيلي، ومع عدم توقع تحرير فلسطين أو انتظار جولة أخرى للحرب مع إسرائيل، أصبحت الأسس الأيديولوجية للتاريخ القديم غير ملائمة وأصبح التلفيق القديم للأساطير ضاراً بالتوجه الخاص بدول المواجهة السابقة.
والقول أن العرب يحتاجون إلى التمحيص النقدي لتاريخهم ليس أمراً بسيطاً لأن ذلك سوف يؤدي إلى إثارة الكثيرة من الجدل كما حدث في إسرائيل منذ عام 1988، ولكن من المفيد القول أن التاريخ الذي يفتقد المصداقية لم يعد يمثل أمراً يخدم مشروعية الدولة أو يخدم مواطنيها، والمساهمون في هذا الكتاب يقترحون كخطوة أولى أن تتم إعادة كتابة تاريخ حرب فلسطين.

إعادة كتاب تاريخ حرب فلسطين:
يقوم هذا الكتاب بإعادة اختبار دور كل المشاركين في حرب فلسطين اعتمادا على الوثائق الرسمية أينما كانت والمواد الجديدة التي ظهرت مؤخراً مثل المذكرات والمواد الأولية الأخرى المنشورة.
وتشتمل المجموعة المساهمة في هذا الكتاب على مؤرخين إسرائيليين جدد رواد وباحثين بارزين عرب وغربيين متخصصين في شئون الشرق الأوسط، من أجل إعادة كتابة تاريخ حرب 1948، من منظور كل الدول المشاركة في الحرب.
وفي كثير من الأحوال قام المؤلفون بمعالجة قضايا أثارها المؤرخون الإسرائيليون الجدد عن سير الحرب والدبلوماسية بين إسرائيل والدول العربية، ومع ذلك فإن الدراسات الخاصة بالدول العربية قد اعتمدت بشكل متعمد على المصادر المحلية من أجل إعادة اختبار التاريخ من منظور عربي، ويقدم المؤلفون أعمالهم على أمل أن يتم الإفراج عن الوثائق الرسمية الموجودة لدى دور الوثائق العربية من أجل التوصل إلى رؤية أكثر عمقاً للصراع العربي الإسرائيلي.
ويشتمل هذا الكتاب على مجموعة من الدراسات عن كل الدول العربية التي شاركت في حرب فلسطين فيما عدا لبنان، وعلى الرغم من الجهود الضخمة التي بذلها المحرران، فقد اتضح أنه من المستحيل العثور على مساهم يقوم باختبار دور لنبنا في الحرب، فالعلاقات اللبنانية الإسرائيلية تظل موضوعاً بالغ الحساسية في آخر الجبهات النشطة للصراع العربي الإسرائيلي، والذي تفاقم من خلال تاريخ التعاون المارون مع الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي لقطاع كبير من جنوب لبنان وتأثير سوريا على السياسة الخارجية اللبنانية، وهناك دراستان تم نشرهما عن "العلاقة الخاصة" الصهيونية المارونية استناداً إلى مصادر إسرائيلية، وقامت لورا إيزنبرج باختبار الدبلوماسية التي أدت إلى إبرام المعاهدة الصهيونية المارونية في عام 1996، وقام كريستن شولتز بالنظر في المحاولات الإسرائيلية المستمرة للتدخل في الشئون اللبنانية الداخلية.
وكلا العملين قد ترجم إلى العربية نشر في بيروت، على الرغم من مصادرة كتاب شولتز بواسطة الرقابة اللبنانية واتهم مؤلفه من قبل الجهات الأمنية "بالتحريض على إثارة النزاع الطائفي".
ولم يتحدث أي من الكتابين كثيراً عن الدور العسكري اللبناني في حرب 1948 والذي كان محدوداً للغاية فقد شارك بعدد رمزي من الجنود بلغ أقل من 1000 فرد عبروا إلى شمال الجليل فقط لكي يتم صدهم بواسطة القوات الإسرائيلية التي قامت بدورها باحتلال قطاع من الأرض في جنوب لبنان حتى قام الجانبان بتوقيع اتفاقية الهدنة في 23 مارس 1949، ومع ذلك لعب لبنان دوراً أساسياً مهما في الدعوة إلى الحرب، فكان رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح يتحدث بلغة خطابية عنيفة تبشر بالنصر الشامل في فلسطين، الواقع أنه تعرض للنقد من قبل الزعماء الآخرين لأنه كان الأكثر تشدداً في اجتماعات الجامعة العربية بينما كان بلده صاحب الدور الأصغر في ميدان المعركة، إن الاتجاه المحافظ للرئيس اللبناني بشارة الخوري وتشدد رئيس وزرائه وطبيعة العلاقات المارونة الصهيونية والتجارب اللبنانية في المعركة والاحتلال الإسرائيلي القصير، تقدم جميعاً مادة ثرية لتاريخ لبناني شيق لحرب 1948، الأمر الذي ربما يتطلب مناخا سياسياً أكثر ملاءمة.
إن معظم الدراسات الواردة في هذا الكتاب تعالج التاريخ القومي سواء لفلسطين أو إسرائيل أو لمصر أو للأردن أو العراق أو سوريا، وهناك استثناءان لذلك هما تقييم بني موريس لنشأة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ودراسة ليلى بارسونز الخاصة بالدروز في حرب فلسطين، وأثارت دراسة موريس الأصلية جدلاً واسع النطاق، بالنسبة لكل من الإسرائيليين الذين يعتقدون أنه يشوه سمعنه وطنه وأيضاً في أوساط الفلسطينيين الذين كان رأيهم أن الوثائق التي كشف عناه موريس تلعن التصرفات الإسرائيلية بدرجة أكبر من الاستنتاجات التي توصل إليها موريس وهي أن "مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ولدت من الحرب، وليس من خلال التخطيط".
وفي السنوات اللاحقة على نشر كتاب نشأة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، تم الإفراج عن عدد كبير من الوثائق الإسرائيلية الجديدة، وخاصة في أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي ووزارة الدفاع وعند إعادة تقييمه للخروج الفلسطيني في حرب 1948، يعالج موريس إحدى أكثر النقاط إثارة للجدل من خلال نقاد السابقين ألا وهي التفكير الصهيوني في "نقل" أو طرد الفلسطينيين من أراضيهم لكي يذوبوا في الدولة اليهودية المقترحة، ويؤكد موريس بالوثائق على تحول الفكر الصهيوني من "العشوائية" إلى "التأييد الجماعي لهذه الفكرة بدءا من عام 1937 فصاعدا مما ساهم فيما حدث في 1948" والجزء الثاني من بحثه يتناول طرد الفلسطينيين من شمال الجليل فيما عرف باسم عملية حيرام "28-31 أكتوبر 1948" مع تقديم أدلة دامغة على الجرائم الوحشية التي اقترفتها القوات الإسرائيلية ضد سكان القرى الفلسطينية، ومع ذلك يواصل موريس رفضه لربط "التفكير في نقل الفلسطينيين" بسياسة الطرد، حيث ينكر أنه "تم اتخاذ أ قرار من قبل المجالس التنفيذية للييشوف لتنفيذ سياسة الطرد الإجباري في سياق حرب 1948".
وتتحدى ليلى بارسونز هذا الاستنتاج استنادا إلى أن التصرفات الإسرائيلية تجاه الدروز، أيضاً كانت تعتمد على عملية حيرام، وتؤكد من خلال الوثائق على وجود علاقة خاصة بين اييشوف اليهود قبل قيا دولة إسرائيل والدروز في أثناء الانتداب تطورت إلى "تحالف سري في "زمن الحرب" بحلول عام 1948.
والأمثلة العديدة للتعاون الدرزي الإسرائيلي في أثناء الحرب والحقيقة القائلة أنه لم يتم طرد أي درزي من مدينته أو قريته، حسب زعمها يدحض مزاعم موريس الخاصة بعشوائية طرد الفلسطينيين والواقع أنه حتى عندما قامت إحدى القرى الدرزية الفلسطينية بنقض اتفاق ما قبل المعركة وقاتلت ضد جيش الدفاع الإسرائيلي لم يتم طرد الدروز الفاطنين للقرية بعد المعركة، فإذا كان الدروز قد سمح لهم بالبقاء من خلال تخطيط متعمد، كما تقول بارسونز، فإن هذا ينطوي "على الأقل على سياسة ملموسة لطرد المسلمين" ومن الواضح أن العدد الوفير من الوثائق المتوافر في دور الوثائق الإسرائيلية مازال يترك الباب مفتوحاً للاختلاف في التفسير بين الباحثين.
وفي دراسته الختامية يقوم إدوارد سعيد بالبحث في نتائج حرب 1948 لمدة خمسين عاماً. إن اختلال التوازن بين قوة المؤسسات والجيش الإسرائيلي من ناحية، والجهود الفلسطينية لقيام دولة فلسطينية داخل غزة والضفة الغربية يثير التساؤلات حول مدى إمكانية قرار إنشاء دولتين الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947، وأفضل الحلول للفلسطينيين، كما يقول هو في وجود دولة ثنائية الهوية، وباستثناء القليل من الأبطال سواء على الجانب الفلسطيني أو الإسرائيلي الذين يؤيدون هذه الرؤية فأنها تكون قد جاءت قبل الأوان، والواقع أنها قد يصبح لها مؤيدون كثيروالعدد بعد نصف قرن آخر حينما يقوم جيل جديد من الباحثين بإعادة تقييم حرب فلسطين في عيدها المئوي.

الجمعة، 18 سبتمبر 2009

الحادي عشر من سبتمبر وأبعاد المؤامرة

مقدمة
تقارن هجمات الحادي عشر من سبتمبر غالباً بالهجوم على بيرل هاربور. وقد كتب المحقق الصحفي جيمس بامفورد، على سبيل المثال، عن سلوك الرئيس بوش "في ظهر يوم بيرل هاربور الحديث". وذكرت شبكة سي بي إس الإخبارية أن الرئيس نفسه، قبل أن يأوي إلى فراشه في الحادي عشر من سبتمبر، كتب في مذكراته يقول: "إن بيرل هاربور القرن الحادي والعشرين حدثت اليوم".
وهذه المقارنة قد تم القيام بها من أجل القول بأن الرد الأمريكي على أحداث الحادي عشر من سبتمبر يجب أن يكون على غرار الرد الأمريكي على بيرل هاربور. وبعد أن ألقي الرئيس خطابه إلى الأمة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، قام هنري كيسنجر بنشر مقال على الإنترنت جاء فيه: "إن الحكومة يجب أن تقوم برد منظم يؤدي، كما يأمل، إلى النهاية التي انتهى إليها الرد على بيرل هاربور، بمعني تدمير النظام المسئول عن حدوث ذلك". وفي افتتاحية مجلة "التايم" التي ظهرت بعد الهجمات مباشرة جاء فيها "دعونا لا نردد أية أقوال سخيفة عن "مداواة الجراح"... إن هذا اليوم المشئوم لا يجب أن يمر دون انتقام. دعونا نطلب الثأر. "إن ما نحتاج إليه اليوم هو التوحد وأن يكون هناك بيرل هاربور يؤجج حمي الغضب الأمريكية".
وأشارت بعض المقارنات إلى أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، قد فجرت رد فعل عنيفاً وطالبت باستخدام القوة العسكرية الأمريكية على نحو يشبه ما حدث في بيرل هاربور. ومن خلال الاستشهاد بما قاله بعض كبار المسئولين في إدارة بوش في عام 2000 بأن التغييرات التي يرغبون فيها سوف تكون صعبة ما لم يحدث بيرل هاربور جديد، كتب جون بيلجر الصحفي الأسترالي يقول: "إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر قدمت بيرل هاربور الجديد". كتب أحد أعضاء معهد الجيش الأمريكي للدراسات الإستراتيجية يقول بأنه بعد الحادي عشر من سبتمبر "وصل التأييد الشعبي للعمل العسكري إلى مستويات تضاهي رد الفعل الشعبي بعد هجوم بيرل هاربور".
وهذه المقارنات مع بيرل هاربور لا تبدو غير مبررة. إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كما يراها الجميع بالفعل، هي الأحداث الأكثر أهمية في العصر الحديث بالنسبة لأمريكا وللعالم أجمع. لقد أدت هجمات هذا اليوم إلى توفير ذريعة لتقييد الحريات المدنية في الولايات المتحدة (كما أدي بيرل هاربور إلى تقييد الحريات المدنية للأمريكيين اليابانيين). وكانت هذه الهجمات أيضاً نقطة انطلاق "للحرب على الإرهاب" على مستوى العالم تقودها الولايات المتحدة، حيث كانت حرباً أفغانستان والعراق تمثلان حدثين كبيرين في هذا السياق.
علاوة على ذلك فإن حرب إدارة بوش على الإرهاب قد نظر إليها على نحو موسع كذريعة من أجل إمبريالية أكثر عدوانية. على سبيل المثال، يقول فليس بنيس أن الحادي عشر من سبتمبر أنتج "سياسة خارجية فرضت على بقية العالم عبر قانون الإمبراطورية الذي لا يمكن تحديه" وبالطبع، أشار بعض المؤرخين إلى الوقت الذي رغب فيه الزعماء الأمريكيون في بناء إمبراطورية تنشر جناحيها على العالم أجمع. ولكن يعتقد معظم نقاد السياسة الخارجية الأمريكية أن إمبريالية إدارة بوش الابن، وخاصة منذ الحادي عشر من سبتمبر كانت أكثر سفورا وتطرفا وتغطرسا. وقد أشار ريتشارد فولك إلى ذلك باسم "مشروع الهيمنة العالمية". وعلى الرغم من وجود إسراف في النوايا الحسنة تجاه أمريكا بعد الحادي عشر من سبتمبر ورغبة عالمية في التسليم بصحة زعمها بأن الهجمات قد منحتها تفويضا بشن حرب عالمية على الإرهاب، فإن هذه النية الحسنة سرعان ما تم استهلاكها. والسياسة الخارجية الأمريكية تنتقد الآن على مستوى العالم على نحو موسع وعلى نحو مرير ربما أكثر من ذي قبل وربما أشد وطأة مما حدث خلال حرب فيتنام. ومع ذلك فإن الرد الأمريكي على النقاد هو الحادي عشر من سبتمبر. على سبيل المثال، عندما انتقد الأوروبيون نية إدارة بوش في الذهاب إلى الحرب ضد العراق، كان من السهل على العديد من صانعي الرأي العام الأمريكي المؤيدين للحرب الدفاع عن موقفهم بالقول أن الأوروبيين لم يذوقوا مرارة هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

الفشل الذريع للصحافة
بالنظر إلى دور الحادي عشر من سبتمبر في قيادة هذه الإمبريالية العدوانية السافرة، يري بعض المراقبين أن المؤرخين سوف يقفون أمامها طويلاً باعتبارها البداية الحقيقية للقرن الواحد والعشرين. ومع ذلك، على الرغم من الاتفاق العالمي على أن الحادي عشر من سبتمبر له تلك الأهمية غير المسبوقة، فإن هناك القليل من التمعن في الحادث في حد ذاته. ففي الذكري السنوية الأولى للهجمات، كتبت صحيفة نيويورك تايمز تقول: "بعد مضي عام، لازال الجمهور يعلم القليل عن الظروف التي أحاطت بمصرع 2801 شخص في قلب مانهاتن في وضح النهار على نحو أقل مما كان يعرفه الجمهور خلال أسابيع في عام 1912 بشأن تيتانيك".
هكذا كان الحال لأن إدارة بوش عبر زعمها أن إجراء تحقيق يمكن أن يصرف الانتباه عن الحرب المطلوبة ضد الإرهاب، رفضت المطلب الخاص بتشكيل لجنة تحقيق خاصة. ولكن افتقار الجماهير إلى المعلومات كان أيضاً راجعاً في جانبه الأعظم إلى أن جريدة التايمز إلى جانب معظم المطبوعات الصحفية لم تقم بنشر تقارير التحقيقات والتي كان من الممكن من خلالها تنوير الجماهير. علاوة على ذلك، بعد مرور عام آخر ظل الموقف كما هو لم يتغير.
ففي الحادي عشر من سبتمبر 2003، تساءل أحد كتاب "فيلادلفيا ديلي نيوز": "لماذا بعد مرور 730 يوماً لا نزال لا نعلم إلا القليل عما جري في ذلك اليوم؟".
إن الصحافة الأمريكية، على وجه الخصوص، لم تقم بالبحث الدقيق والمتعمق في الرواية الرسمية لمضاهاتها بالأدلة المتوافرة والنظر إلى مدى معقوليتها.
وأثار الكثير من روايات الصحف والتلفزيون العديد من التساؤلات المقلقة والمحيرة بشأن الرواية الرسمية حيث تبين أن هناك عناصر معينة غير مقنعة أو تبدو متناقضة مع وقائع معينة. ولكن الصحافة لم تجابه المسئولين الحكوميين بهذه الأشياء غير المنطقية والمتناقضة. علاوة على ذلك فإن وسائل الإعلام لم تقدم للجمهور أي رؤية شاملة تزيح النقاب عن الكثير من الأمور المستغلقة والغامضة. وهناك الكثير من القصص بالغة الأهمية لدي عدد من الصحفيين من بينهم الصحفي العالمي ذائع الصيت جريجوري بلاست والصحفي الكندي باري زفيكر. ولكن هذه القصص، حتى لو ظهرت إلى الوجود فإنها كثيراً ما يتم تجاهلها من قبل الوعي الجماعي وتظل مجرد منتجات فردية لكتابات أصلية وشجاعة ولكنها لا يسمح لها بإضافة أي شيء هام. وفي النهاية، على الرغم من الانتقادات الحادة للرواية الرسمية التي قام بها الكثير من الأشخاص الذين هم فوق مستوى الشبهات فإن وسائل الإعلام لم تعرض وجهات نظرها على الجماهير.
والانتقادات الموجهة للرواية الرسمية هي انتقادات مثيرة للجماهير، حيث تنطوي على أن القادة الأمريكية، بمن فيهم الرئيس، قد صنعوا كذبة كبرى. وإذا كانوا قد لفقوا رواية كاذبة فإنهم يكونون قد فعلوا ذلك، كما يعتقد معظم الناس، من أجل إخفاء تواطؤهم في الأمر. وهذه في الواقع هي النتيجة التي توصل إليها معظم نقاد الرواية الرسمية. وهذه بالتأكيد تهمة مثيرة لغضب الجماهير، ولكن كيف نستطيع أن ندعي أن لدينا صحافة حرة؟ أو سلطة رابعة؟ إذا كانت تفشل في التحقيق في تهم خطيرة موجهة ضد الرئيس المنتخب بحجة أنها مثيرة للغضب الشعبي. لقد كانت التهم الموجهة ضد الرئيس ريجان في فضيحة إيران-كونتراتهما مثيرة للجماهير. وكانت التهم الموجهة نحو الرئيس كلينتون تهماً أيضاً مثيرة للغضب. ومع ذلك في كل من هذه الحالات قامت الصحافة بتغطية الموضوع. إننا في مثل هذه المواقف نكون في أمس الحاجة إلى صحافة حرة. ولكن الصحافة قد فشلت في القيام بواجبها فيما تصل بأحداث الحادي عشر من سبتمبر على الرغم من ذلك، فإذا كانت الرواية الرسمية لهذه الأحداث كاذبة فإن العواقب سوف تكون وخيمة على نحو أخطر من أي من تلك الفضائح السابقة. وقد تم استخدام الرواية الرسمية للأحداث كمبرر للحرب على أفغانستان والعراق، والتي أدت ليس فقط إلى مقتل آلاف المحاربين ولكن أيضاً العديد من المدنيين الأبرياء الذين فاق عددهم من لقوا مصرعهم في الحادي عشر من سبتمبر. وهذه الرواية قد استخدمت أيضاً كذريعة للقيام بعشرات العمليات الأخرى حول العالم والتي لا يعلم الشعب الأمريكي عنها شيئاً. كما استخدمت لتبرير إصدار قانون مكافحة الإرهاب الذي تم فيه وضع الحريات المدنية للأمريكيين في الأغلال. واستخدمت لتبرير الاعتقال الأبدي للعديد من الأشخاص في "جوانتانامو" وفي أماكن أخرى. ومع ذلك فإن الصحافة كانت مهذبة للغاية في استجواب الرئيس بشأن الحادي عشر من سبتمبر وكانت أكثر عدوانية في استجوابها للرئيس كلينتون بشأن علاقته بمونيكا لوينسكي، وهو أمر في غاية التفاهة بالمقارنة.
إن الفشل الذريع لوسائل الإعلام الأمريكية في هذا الخصوص قد اعترف به أصحاب الشأن. على سبيل المثال، أعلنت رينا جولدن، نائبه الرئيس والمدير العام لشبكة الـ"سي إن إن" في أغسطس 2002 أن الصحافة الأمريكية تمارس الرقابة الذاتية على نفسها فيما يتصل بكل من الحادي عشر من سبتمبر والحرب على أفغانستان. وتضيف جولدن قائلة "إن أي شخص يدعي أن وسائل الإعلام الأمريكية لا تمارس الرقابة الذاتية يخدعك. وهذا ليس خاصا فقط بالسي إن إن، فكل صحفي يتصل على نحو قريب أو بعيد بأحداث الحادي عشر من سبتمبر يتحمل بعض المسئولية عن ذلك".
وقد أعلن دان رازر الصحفي بشبكة سي.بي.إس عن السبب في حدوث ذلك حيث قال:
"لقد جاء وقت في جنوب أفريقيا كان فيه الناس يضعون الإطارات المشتعلة حول أعناق المخالفين لهم في الرأي. وعلى نحو ما فإن الخوف من أن يضعوا تلك الإطارات حول عنقك، وهو في هذه الحالة إطار الاتهام بعد الولاء أو عدم الانتماء. وهذا الخوف هو الذي يمنع الصحفيين من توجيه الأسئلة الصعبة".
يوضح اعتراف رازر جانباً ضئيلاً من الأسباب الكامنة وراء إحجام الصحافة عن نقد الرواية الرسمية، وخاصة أن الصحفيين الذين ينظر إليهم على أنهم غير وطنيين يمكن أن يخسروا وظائفهم.
ويقترح ثيري ميسان، أحد النقاد البارزين للرواية الرسمية، أن الأمريكيين ينظرون إلى أي نقد للرواية الرسمية ليس فقط على أنه عدم ولاء للوطن ولكن على أنه أيضاً هرطقة وكفر. وفي يوم الثاني عشر من سبتمبر يذكرنا ميسان بإعلان الرئيس بوش عن نيته في قيادة "صراح أبدي للخير ضد الشر". وفي الثالث عشر من سبتمبر، أعلن بوش أن اليوم التالي سوف يكون ذكري سنوية للصلاة وتذكر ضحايا الهجمات الإرهابية.
وفي الرابع عشر من سبتمبر أعلن الرئيس وهو يحيط به بيلي جراهام وكاردينال وحاخام وشيخ بالإضافة إلى أربعة رؤساء سابقين والعديد من أعضاء الكونجرس في موعظة دينية:
"إن مسئوليتنا أمام التاريخ واضحة جلية: وهي الرد على هذه الهجمات والقضاء على عالم الشر. لقد تم شن الحرب علينا من قبل الخسة والغدر. وهذه الأمة أمة مسالمة ولكن الحقد تحول إلى غضب وأفرز العلم أعداء للحرية لقد هاجموا أمريكا لأننا بلد حر وندافع عن الحرية. إن واجبنا أن نحافظ على ما نادى به آباؤنا... إننا نسأل الله القادر أن يحفظ أمتنا وأن يلهمنا الصبر والحكمة في الأيام المقبلة... ونسأله أن يرشدنا إلى سواء السبيل. بارك الله أمريكا".
وعبر هذا الحدث غير المسبوق الذي أعلن فيه رئيس الولايات المتحدة الحرب من كاتدرائية، يري ميسان أن "الحكومة الأمريكية قد أحاطت الرواية الرسمية بهالة من القداسة. ومنذ ذلك الحين فصاعدا أصبح أي جدل حول الحقيقة الرسمية ينظر إليها على أنه تدنيس للمقدسات".

الحادي عشر من سبتمبر واليسار
إذا كانت إثارة تساؤلات محيرة أو مثير الشك حول الرواية الرسمية ينظر إليها على أنها عدم ولاء وتدنيس للمقدسات، فلا يثير الدهشة أن يعترف كل من رينا جولدن ودان رازر أن الاتجاه الغالب في الصحافة الأمريكية لم يقم بإثارة هذه الأسئلة. كما لا يثير الدهشة أن معلقي الجناح اليميني وحتى المعلقين المعتدلين على الشئون السياسية لم يطرحوا أسئلة جادة حول الرواية الرسمية. وحتى لا يثير الدهشة أن البعض منهم-بنم فيهم جان بيثيك اليشتين أستاذة الأخلاق الاجتماعية والسياسية؟ قد أعلن أن الاتهام الخاص بوجود تواطؤ رسمي يتجاوز حدود الجدل المنطقي، بحيث أنه يمكن تجاهل أية حجج تؤيد هذا الاتهام. وتضيف اليشتين مشيرة إلى الاتهام القائل بأن المسئولين الأمريكيين بما فيهم الرئيس كانوا متواطئين في الهجمات:
إن هذا النوع من الجنون المطبق يتجاوز حدود الجدل السياسي وعلى ذلك أنه "لا يستحق أن نستمع إليه" ومن هذا المنظور، ليس من الضروري اختبار الأدلة المقدمة بواسطة منفذي الرواية الرسمية حتى على الرغم من أن هؤلاء النقاد هم أساتذة مثقفون يقومون بالتدريس في جامعات مجاورة، مثل الأكاديميين الكثيرين المتمتعين بالاحترام الاقتصادي ميشيل شودوسكي والفيلسوف الاجتماعي جول ماك مورتر.
وعلى الرغم من أن إلشتين تشير إلى "أننا إذا حظينا بوصف خاطئ للأحداث، فإن تخيلاتنا وأخلاقياتنا سوف تكون خاطئة أيضاً"، فإنها توافق على أنه ليس من الضروري النظر فيما إذا كان من المحتمل أن تكون الرواية الرسمية عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر غير صحيحة. وعلى الرغم من أن هذا موقف غير سار، وخاصة حينما يعبر عنه داخل المجتمع الفكري أو طائفة المثقفين، فإنه لا يدعو إلى الدهشة.
ومع ذلك، فإن ما يثير الدهشة هو أن النقاد اليساريين الأمريكيين، الذين لا يهتمون كثيراً بشأن أن يطلق عليهم غير وطنيين أو منتهكين للمقدسات، لم يقوموا في جانبهم الأعظم، على الأقل على نحو علني، باستكشاف مدى إمكانية وجود تواطؤ رسمي.
وهؤلاء النقاد كانوا منتقدين على نحو لاذع للطريقة التي قامت بها إدارة بوش بالرد على أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد أشاروا، على وجه الخصوص، إلى أن هذه الإدارة قد استخدمت أحداث سبتمبر كذريعة لوضع سياسات وتنفيذ عمليات لها علاقة ضئيلة أو ليس لها علاقة على الإطلاق بمعاقبة مرتكبي الهجمات أو منع وقوع هجمات مماثلة في المستقبل. وأشاروا حتى إلى أن معظم هذه السياسات والعمليات كانت موضوعه بالفعل على أجندة إدارة بوش قبل الهجمات، حيث لم تكن هجمات سبتمبر سبباً وإنما كانت مجرد ذريعة لتنفي هذه السياسات. ونعلم هؤلاء النقاد أيضاً أن الولايات المتحدة قامت مراراً وتكراراً في الماضي بتلفيق "حادث" ما ذريعة للمضي إلى الحرب، كما حدث في الحرب على المكسيك وكوبا وفيتنام.
ولكن القليل من أولئك النقاد قاموا بمناقشة جادة، على الأقل على مسمع ومرأى من الجماهير، لأحداث سبتمبر من هذا المنظور على الرغم من أن توضيح تلك الحقيقة، بافتراض أنها صحيحة، سوف يكون أكثر الطرف فعالية لإجهاض سياسات إدارة بوش التي يعارضونها بقوة.
وحتى لو رفضوا "نظرية المؤامرة" فإنهم يقبلون، على الأقل على نحو خفي، "نظرية المصادفة" والتي تبعاً لها كانت أحداث الحاد عشر من سبتمبر، من وجهة نظر الإدارة، فرصة ذهبية للسماح لها بتنفيذ أجندتها.
ويقدم راؤول ماهاجان، احد النقاد البارعين للإمبريالية الأمريكية، مثالاً على ذلك. وهو يقوم بتحليل قضايا الإمبريالية الأمريكية منذ الحادي عشر من سبتمبر على ضوء ما جاء في الوثيقة المشار إليها من قبل والتي تحدثت عن مدى الحاجة إلى "بيرل هاربور جديد" ممكن أن يؤدي إلى إعادة بناء الدفاعات الأمريكية والتي أعدت من قبل مشروع القرن الأمريكي الجديد. ويؤكد ماهاجان على ثلاثة موضوعات أساسية احتوت عليها الوثيقة وهي الحاجة إلى بناء المزيد من القواعد العسكرية حول العالم من أجل ممارسة الهيمنة العسكرية والحاجة إلى إحداث "تغيير في النظام" في الدول التي لا تخدم المصالح الأمريكية والحاجة إلى زيادة الإنفاق العسكري وخاصة في مجال "الدفاع الصاروخي" والتي لا ينظر إليها على أنها من أجل الردع ولكن "كشرط أساسي للحفاظ على المبادرة" من خلال منع الدول الأخرى من ردع الولايات المتحدة. ويشير ماهاجان بعد ذلك إلى أن "هجمات الحادي عشر من سبتمبر كانت فرصة طبيعية من أجل إنعاش الموازنة العسكرية" كما أن الأفكار الأخرى الواردة في هذه الوثيقة بالإضافة إلى انشغال بوش وتشيني الدائم بالبترول قد وفرت القضايا الكبرى الخاصة بالإستراتيجية الإمبريالية بعد الحادي عشر من سبتمبر.
ويشير ماهاجان أيضاً إلى أن هذه الوثيقة تنص على أن التحول العسكري قد يكون مستحيلا من الناحية السياسية "ما لم تحدث مأساة أو حادث مروع" شيئاً ما مثل بيرل هاربور جديد. ويضف ماهاجان أيضاً أنه "في خلال عام كان لدي مؤلفي هذه الوثيقة ما يبحثون عنه (بيرل هاربور جديد) وكانت لديهم الفرصة لتحويل أحلامهم الإمبريالية إلى واقع ملموس". ومع ذلك، بعد الإشارة إلى كل ذلك ينحاز ماهاجان إلى المصادفة وليس المؤامرة لن يسرهم ذلك بلا ريب ولكن هذا مثل الكثير من الأحداث في تاريخ السياسة للخارجية الأمريكية هو مثال آخر لقاعدة باستير الشهيرة التي تقول "إن الحظ يخدم العقل المدبر".قد يكون ماهاجان على حق. ولكنه لا يقدم لنا سبباً يوضح لنا لماذا يفكر على هذا النحو. وهو-على وجه الخصوص-لم يقدم لنا ما يدل على أنه قد قام بدراسة الأدلة المقدمة من قبل أولئك الذين يقولون بأن الهجمات لم يكن من الممكن أن يكتب لها النجاح إلا بتواطؤ الحكومة الأمريكية.

الخميس، 17 سبتمبر 2009

الأصولية اليهودية في إسرائيل

مقدمة

لأن الأصولية الإسلامية كانت دائما مرادفة للإرهاب العربي فإنها تحصل على نصيب وافر من كراهية العالم غير الإسلامي. ولأن الأصولية المسيحية مصحوبة دائما بالجهل والخرافة وعدم التسامح والتمييز العنصري فقد أصبحت هدفاً لبغض الصفوة الثقافية والحضارية في الولايات المتحدة. وأدت الزيادة الكبيرة في أعداد معتنقيها مؤخراً، إلى جانب اتساع نفوذها السياسي، إلى تحول الأصولية المسيحية إلى خطر حقيقي على الديمقراطية في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من احتوائها على كل السمات العلمية الاجتماعية للأصولية الإسلامية والمسيحية، على وجه التقريب، فإن الأصولية اليهودية مجهولة خارج إسرائيل وقطاعات معينة من بعض الأماكن الأخرى. وحينما يتم العلم بها، فإن أهميتها يتم التقليل منها إلى أدنى حد أو تقصتر على الممارسات الدينية السرية والزى اليهودي التقليدي الأوروبي، وذلك-غالباً-من خلال المعلقين غير الإسرائيليين الذي يرون الشرور الكامنة في أبناء عمومتها الأصولية الإسلامية والأصولية المسيحية.
وباعتبارنا دارسين للمجتمع المعاصر وكيهوديين، أحدهما إسرائيلي والآخر أمريكي، ربما لدينا من التزامات وارتباطات بالشرق الأوسط، فإننا لا نستطيع المساهمة في رؤية الأصولية اليهودية في إسرائيل كعائق جوهري أمام السلام في المنطقة. كما أننا لا نستطيع المساهمة في تجاهل الخطر الداهم للأصولية اليهودية على السلام وعلى ضحاياها من خلال أولئك الذين يعرفونها معرفة جيدة، وسرعان ما يشيرون بأصابع الاتهام إلى العنف الكامن في المناهج الأصولية الأخرى.
هذا الكتاب هو رحلة للفهم-غالباً مؤلمة وموحشة وتبعث على القلق-بالنسبة لنا كيهود يعلقون الكثير على اليهودية. ومن كل قلوبنا وعقولنا نرغب في أن يقوم اليهود إلى جانب الشعوب الأخرى بالكفاح من أجل تحقيق القيم العليا، حتى لو قصرنا على بلوغها، ونحن نري أن هذه القيم تقع من الحضارة الغريبة موقع القلب، ويعمل في سبيلها كل العالم المتحضر. إننا نؤمن بأن هذه القيم لا تقف في طريق السلام بأي شكلا من الأشكال. وإساءة استخدام هذه القيم باسم الأصولية اليهودية تقف عقبة على طريق السلام وأمام تنمية الديمقراطية الإسرائيلية وحتى على طريق التحضر، مما يسيء إلينا كيهود وكبشر. ومن أجل التعرف على والحد من-وليس التخلص النهائي- من هذه الإساءة، كتبنا هذا الكتاب وشرعنا في هذه الرحلة...على أمل أن نصل بقرائنا إلى شاطئ الفهم ونحن معهم.
إننا نفترض أن السلام في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تم فهم التيارات والتيارات المعارضة للحياة المعاصرة في المنطقة. وفي هذه المنطقة ذات السمات التاريخية والدينية البارزة، يتضمن ذلك الفهم سبر غور الماضي الذي لا يزال يخيم بظلاله على المواقف والقيم والافتراضات والسلوك لكل شعوب هذه الأرض الجميلة والمليئة بالمتاعب. والمعارضة اليهودية في إسرائيل للأصولية اليهودية زادت إلى حد بعيد بعد أن أصر أحد المتعصبين الأصوليين الدينيين اليهود، وهو إيجال عامير، بأنه كان يتصرف طبقاً لتعليمات الشريعة اليهودية حينما قام بإطلاق الرصاص على إسحاق رابين رئيس الوزراء الراحل وأرداه قتيلاً. وأدي قيام العديد من الجماعات الدينية اليهودية بعد الاغتيال بتأييد جريمة القتل هذه باسم الديانة اليهودية "الحقيقية" إلى إثارة الاهتمام في إسرائيل بجرائم القتل الماضية التي قام بها يهود ضد يهود آخرين اعتبروا مهرطقين أو آثمين.
وفي كتابنا هذا سوف نستشهد بتحقيقات حالية وسابقة لباحثين إسرائيليين يؤكدون أن اليهود قبل قرون من ظهور الدولة القومية المعاصرة، من خلال اعتقادهم بأنهم يعملون تبعاً لكلمة الرب واستعدادا للجنة الأبدية، قاموا بمعاقبة أو قتل المهرطقين ومرتكبي الآثام. إن الأصولية اليهودية المعاصرة محاولة للعودة إلى المجتمع الذي كان موجوداً قبل ظهور الحياة المعاصرة.
والقواعد الأساسية للأصولية اليهودية هي نفسها الخاصة بالديانات الأخرى: إعادة بعث وإحياء المجتمع الديني "النقي" والورع المفترض وجوده في الماضي.
كما سوف نقوم بوصف أصول وأيديولوجيات وممارسات وتأثير الأصولية على المجتمع ببعض التفصيل.
كما أننا سوف نؤكد بشكل خاص على الاتجاه المسياني أو المسيحاني (الذي يبشر بظهور المسيح أو المخلص اليهودي وقيام مملكة اليهود).
وذلك لأننا نعتقد أنه الاتجاه الأكثر تأثيراً والأكثر خطورة في إسرائيل.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، ند أن الحزب القومي الديني، الذي يسيطر عليه أنصار الاتجاه المسياني (المبشر بالخلاص) للأصولية اليهودية، يعارض بشكل مستمر أي انسحاب من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967.
وقد عارض هؤلاء الأصوليون الانسحاب الإسرائيلي من سيناء عام 1978، وبعد مرور عشرين عاماً على ذلك مازالوا يعارضون أي انسحاب من الضفة الغربية، ونفس اليهود هم الذين قاموا بطباعة وتوزيع أطلس يبين أرض إسرائيل المزعومة، التي تنتمي في رأيهم لليهود وتنتظر التحرير وتشتمل على سيناء والأردن ولبنان ومعظم سوريا والكويت. كما دافع الأصوليون اليهود عن المقترحات المسرفة في التمييز العنصري ضد الفلسطينيين.
إذن لا عجب أن باروخ جولدشتاين وإيجال عامير، أشهر السفاحين اليهود في التسعينيات ومعظم المعجبين بهم كانوا من الأصوليين اليهود ذوي النزعة المسيانية.
وفي التسعينيات، رز علماء الاجتماع والباحثون الإسرائيليون العاملون في المجالات الأكاديمية أكثر من أي وقت مضي على الآثار الاجتماعية للأصولية اليهودية على المجتمع الإسرائيلي. والرأي الشائعتين هؤلاء الباحثين هو أن الأصولية اليهودية في إسرائيل معادية للديمقراطية. ويعارض الأصوليون المساواة بين جميع المواطنين، وخاصة غير اليهود واليهود المنحرفين مثل الشواذ، والغالبية العظمي من اليهود المتدينين في إسرائيل، بسبب تأثرهم بالأصوليين، يشاركونهم وجهات نظرهم إلى حد ما.
وفي عرض أحد الكتب التي نشرت في 14 أكتوبر 1998، يستشهد باروخ كيمرلنج، أحد علماء الاجتماع الإسرائيليين البارزين، ببعض الدلائل المأخوذة عن إحدى الدراسات التي قام بها باحثون آخرون، قائلاً:
"إن قيم الديانة (اليهودية)، على الأقل في شكلها الأرثوذكسي والقومي الذي يسود إسرائيل، لا يمكن أن تتوافق مع القيم الديمقراطية، ولا يوجد أي متغير آخر- سواء كان القومية أو الموقف من الأمن أو القيم الاجتماعية أو الاقتصادية أو السلالة العرقية أو التعليم- يؤثر على مواقف اليهود (الإسرائيليين) على نحو يضر بالديمقراطية كما يفعل التشدد الديني".
ومن خلال الاستشهاد بأدلة إضافية، يقول كيمرلنج أيضاً أن اليهود الإسرائيليين العلمانيين الذي حصلوا على تعليم جامعي أو متوسط هم أكثر التصاقاً بالقيم الديمقراطية وأن اليهود المتدينين الذي تلقوا تعليمهم في المدارس الدينية (اليشيفوت) هم الأكثر اعتراضاً على الديمقراطية، ومن الواضح أن عداء الأصوليين للقيم الديمقراطية، وكذلك لمعظم جوانب الثقافة العلمانية ونمط الحياة السائدة، مغروس بعمق في المدارس الدينية الإسرائيلية.
إن الأدلة التي تشير إلى عداء الأصوليين لأسلوب الحياة العلماني للغالبية العظمي من اليهود الإسرائيليين بالغة الوضوح. والعدد الصادر يوم 20 سبتمبر عام 1998 من صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أوسع الصحف اليومية الإسرائيلية انتشارا، على سبيل المثال، يحتوي على دراسة مسحية "للخصائص الثقافية" للمجتمع اليهودي الإسرائيلي. وكشف الدراسة عن أن المستهلكة الإسرائيليين الأساسيين للثقافة، الذين يزورون المتاحف ويحضرون الحفلات الموسيقية ويشاهدون العروض المسرحية، هم أولئك الذين أتموا الدراسة بالمدرسة العليا، ووصفوا أنفسهم بأنهم لا علمانيون ولا متدينون أرثوذكس. وأكدت الصحافة الدينية الإسرائيلية وتصريحات الحاخامات الإسرائيليين، التي تدين النشاط الثقافي، على نتائج الدراسة.
وأبدي الأصوليون اليهود عداء سافرا تجاه اليهود الذين يتبعون نمط حياة جنسية مختلفا، كما كان رد فعل الكثير من الحاخامات الإسرائيليين والأحزاب السياسية الدينية الإسرائيلية في التسعينيات عنيفا تجاه تنامي قوة جماعات الشواذ والشاذات في إسرائيل. وتبعاً للهالاخاه (الشريعة اليهودية) فإن عقوبة الشذوذ هي الرجم حتى الموت، وعلى الرغم من أن العقوبة غير واضحة بالنسبة للسحاق، فإنه محرم أيضاً. وركز الصحافة العلمانية في التسعينيات على بعض المقترحات الحاخامية الغاضبة للتعامل مع الشواذ، والتي اشتملت على "العلاج الإجباري" وقضاء فترة في "معهد تعليمي مغلق".
وأشار الكثير من الحاخامات إلى أنهم يفضلون تطبيق عقوبة الموت على الشواذ اليهود. (ومالوا إلى تنحية موضوع السحاق جانباً). وفي الدعاية الانتخابية التليفزيونية، كانت الأحزاب السياسية الإسرائيلية الدينية تؤكد على أن اليهود الشواذ يشكلون أحد أعظم الأخطار التي تهدد إسرائيل.
والصراعات في المجتمع الإسرائيلي بين أنصار ومناوئي الأصولية اليهودية تعتبر ضمن أهم قضايا السياسة الإسرائيلية.
وفي هذا الكتاب لن نحاول مناقشة كل هذه المشاكل والقضايا. ولكننا سوف نركز على ما نعتبره المشاكل والقضايا الأكثر حيوية للأصولية اليهودية.
إن المدافعين عن "المصالح اليهودية" يهاجمون غالباً الأشخاص الذين يكتبون بشكل نقدي عن اليهود واليهودية بسبب عدم تأكيدهم في نفس المكان على السمات الإيجابية والتي قد لا يكون لها أي تأثير يذكر على الموضوع الذي تتم معالجته، وبعض هؤلاء المدافعين، على سبيل المثال، قاموا بالهجوم على سيفي راكلفسكي بعد نشره كتابه الشهير "حمار المسيح". وفي كتابه زعم راكلفسكي أن الحاخام الأعظم كوك، الأب الروحي للنزعة المسيانية في الأصولية اليهودية (والذي يشار إليه على نحو بارز في هذا الكتاب)، قال أن "الفرق بين روح اليهود وأرواح غير اليهود-على مختلف المستويات-أكبر وأعمق من الفرق بين روح الإنسان وأرواح البهائم" ولم يحاول مناوئو راكلفسكي نفي علاقة كوك بهذه المقولة. ولكنهم، بدلا من ذلك، قالوا أن الحاخام كوك قال أشياء أخرى وأن راكلفسكي، من خلال إغفاله ذكرها، قد شوه تعاليم الحاخام كوك. وأشار راكلفسكي إلى أن مجمل تعاليم الحاخام كوك كانت قائمة على "القبالاه اللوريانية"، وهي تلك المدرسة من مدارس التصوف اليهودي التي سادت اليهودية من أواخر القرن السادس عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر (وقام بتأسيسها الحاخام إسحاق لوريا). وإحدى العقائد الأساسية للقبالاه اللوريانية تتمثل في السمو المطلق للروح اليهودية والجسد اليهودي على الروح والجسد غير اليهوديين. وتبعاً للقبالاه اللوريانية، فإن العالم خلق فقط من أجل اليهود، ووجود غير اليهود هو أمر ثانوي. فلو قام أد القساوسة المسيحيين أو أحد رجال الدين الإسلامي البارزين بالقول بأن الفرق بين الأرواح السامية لغير اليهود والأرواح الأدنى لليهود اكبر من الفرق بين روح الإنسان وروح البهيمة، فإنه سوف يشعل غضب معظم الباحثين اليهود ويتهمونه بمعاداة السامية بصرف النظر عن العبارات الإيجابية التي يمكن أن تكون قد جاءت في كلامه. ومن هذا المنظور يعتبر مناوئو راكلفسكي من معتنقي الرياء. ولكون الحاخام كوك كان نباتياً، وكونه كان حتى يحترم حقوق النباتات لدرجة عدم سماحه يقطف الزهور من أجل أن يستمتع بها، لا يضيف ولا ينقص من موقفه الخاص بالمقارنة بين أرواح اليهود وغير اليهود شيئاً. كما أن استنكاره للوحشية اليهودية غير الضرورية ضد غير اليهود لا يجب أن يقلل من النقد الموجه لابتهاجه النابع من إيمانه بأن موت ملايين الجنود أثناء الحرب العالمية الأولى كان إحدى علامات قرب خلاص اليهود ومجيء المسيح.
إن المنتقصين من قدر راكلفسكي وأولئك الذين قد يمطروننا بوابل من النقد لنا ولكتابنا على السواء ليسوا المنافقين الوحيدين في المنطقة. فأرفف المكتبات في الدول التي تتحدث الإنجليزية وفي دول أخرى تئن تحت وطأة الكتب التي تتحدث عن التصوف اليهودي بشكل عام وعن القبالاه اللوريانية والحسيدية (وهي حركة صوفية أسسها بعل شيم طوف)، بشكل خاص. والكثير من مؤلفي هذه الكتب يعتبرون من أشهر الباحثين بسبب اهتمامهم بالتفاصيل. ومع ذلك، فإن من يقرأ هذه الكتب لا ينتابه الشك في أن التصوف اليهودي والقبالاه الليوريانية والحسيدية وتعاليم الحاخام كوك تحتوي على أفكار أساسية عن التفوق اليهودي مقارنة بأسوأ أشكال معاداة السامية.
فمؤلفو هذه الكتب، ومنهم جيرشون سوليم على سبيل المثال، قد أغفلوا الإشارة إلى هذه الأفكار. فهؤلاء المؤلفون منافقون على أعلى مستوي. وهم بذلك يشبهون الكثير من مؤلفي الكتب التي تتناول ستالين والستالينية، فتحي وقت قريب، لم يكن يستطيع قراءه الكتب التي كتبت بواسطة أنصار ستالين أن يعلموا شيئاً عن جرائم ستالين كما كانت لديهم أفار خاطئة عن الأنظمة الستالينية وأيديولوجياتها الفعلية.
والواقع أن هناك يهوداً معينين، بعضهم يملك نفوذا سياسياً، يعتبرون أن اليهود أعلى منزلة من غير اليهود، وينظرون إلى العالم على أنه خلق فقط أو بشكل أساسي من أجل اليهود، وهذا الإيمان بالتفوق اليهودي يكون أخطر ما يمكن حينما يكون متغلغلا في نفوس يهود يحبون أطفالهم، ويتميزون بالأمانة في علاقاتهم باليهود الآخرين وفي معاملاتهم وتتميز أعمالهم، كما هي الحال بالنسبة للأصوليين في كل الديانات، بالتقوى.
كما يكون هذا الاعتقاد أقل خطورة حينما يؤمن به يهود لا يهتمون كثيراً بالدين أو بالفساد. ونفس الشيء يمكن أن نراه حينما يكون هناك نظام علماني شمولي، فإن الشخص المخلص لهذا النظام أو القوم المتشدد يكون عادة أثر خطورة وضرراً من أي شخص فاسد في نفس النظام الأيديولوجي.
والمحصلة النهائية لهذه المقدمة هي محصلة شخصية وعامة. فنحن كيهود، ندرك أن أجدادنا أو أسلافنا آمنوا على الأقل ببعض الأفكار التي جاءت في هذا الكتاب.
ونفس العبارة يمكن أن تنطبق على يهود معاصرين آخرين.
ففي الماضي اعتنق الكثير من غير اليهود، أفراداً وجماعات، أفكار معادية للسامية، والتي-حينما أصبحت الظروف مواتية-أثرت على سلوك الآخرين تجاه اليهود. وبالمثل، في الماضي، كانت العبودية تمارس في أركان البسيطة الأربعة وتجد من يبرد وجودها، وكانت المنزلة المتدنية للمرأة ظاهرة عالمية، وكان هناك إيمان بانتماء بلد معين لفرد معين أو عائلة معينة وكان يورث. والأصوليون اليهود مازالوا يؤمنون، كما كانوا في الماضي، بأن هناك عصراً ذهبياً، كان، أو سوف يكون-كل شيء فيه بالغ الكمال. وهذا العصر الذهبي يكون أقرب ما يكون إلى الواقع بالنسبة لهم لدرجة أنهم عندما يواجهون بمعتقداتهم وممارساتهم الضارة فإنهم يلوذون بكلمة الرب، كما يلجأون إلى الوصف الكاذب للماضي وإدانة غير اليهود بأنهم يضمرون الإحساس بالتفوق ويزدرون اليهود.
كما يقوم الأصوليون أيضاً بتبرير إيمانهم بالنفوق اليهودي وشعورهم بالاحتقار تجاه غير اليهود ويسعون إلى إحياء العصر الذهبي الأسطوري الذي يسود فيه ما يؤمنون به.
لقد كتبنا هذا الكتاب من أجل الكشف عن الشخصية الحقيقية للأصولية اليهودية ومعتنقيها. هذه الشخصية التي تهدد السمات الديمقراطية للمجتمع اليهودي. ونحن نؤمن بأن الوعي هو أولى خطوات المعارضة.
كما ندرك أنه من خلال نقد الأصولية اليهودية فإننا ننقد جزءاً من الماضي الذي نحبه. إننا نرغب في أن يقوم أعضاء كل المجتمعات البشرية بنقد ماضيهم، حتى قبل أن ينقدوا الآخرين. وهذا-كما نعتقد-يمكن أن يؤدي إلى تفاهم أفضل بين المجتمعات الإنسانية، ويمكن أن تتبعه، ربما على نحو بطئ ومتردد، معاملة أفضل للأقليات. ومعظم ما جاء في كتابنا يتعلق بالمعتقدات الأساسية للمجتمع اليهودي الإسرائيلي والسياسات الناتجة عن ذلك. ونحن نؤمن بأن نقد الأصولية اليهودية، الذي يتضمن نقداً للماضي اليهودي، يمكن أن يساعد اليهود على اكتساب المزيد من الفهم وتحسين سلوكهم تجاه الفلسطينيين، وخاصة في الأراضي المحتلة عام 1967، كما نأمل أن يؤدي نقدانا إلى تحفيز أشخاص آخرين في الشرق الأوسط على نقد ماضيهم برمته من أجل زيادة معرفتهم بأنفسهم وتحسين سلوكهم تجاه الآخرين.
وكل ذلك يمكن أن يشكل عاملاً جوهرياً في تحقيق السلام في الشرق الأوسط.

الثلاثاء، 15 سبتمبر 2009

التحالف ضد بابل

التحالف ضد بابل
تأليف: جون كولي
ترجمة ناصر عفيفي


الفصل الأول
ميراث بابل

" كنا في منطقة تبعد عن شط العرب مسافة قليلة جهة الشمال ورأينا بعض الأطلال في الصحراء. كان المكان قد نهب تماماً وكانت هناك حفراً في كل مكان. وجدت حجراً مخروطياً مليئاً بالنقوش وكذلك على تلك اللوحة التي دفنت في الرمال. أخبرنا المترجم فيما بعد أنها ترجع إلى عام 2000 قبل الميلاد وأنها جزء من معبد الملك. إنني أجهل تماماً علم الآثار فأنا رجل عسكري. كل ما عرفته أنها قديمة تماماً. كانت صفقة عظيمة تتمثل في العثور على هذه القطع الأثرية ولكنني في نفس الوقت كنت متكدراً قليلاً ، فنحن لا نزال في العراق ".

( توني ميريل ، الفرقة الخامسة مشاة البحرية الأمريكية ، العراق ، يونيو 2003 ) .
( نيويورك تايمز ، 16 يونيو ، 2003 )

كصبي صغير في الثلاثينيات نشأ في مونت فيرنون بنيويورك بالقرب من ضاحية برونكس ، كانت قصص التوراة ، بما فيها تلك التي تتحدث عن اليهود وأعدائهم الشرق أوسطيين ، لا تشكل اهتمامي الأكبر.

كان والداي يعملان بالصحافة وكانا مغرمان بنشرات الأخبار. وكنا منومين مغناطيسياً بسبب لعاصفة التي تتجمع في أوربا. وقد بدأ أدولف هتلر في ابتلاع جيران ألمانيا واحداً بعد الآخر.

وكان يسوق يهود ألمانيا وأوربا نحو مصيرهم المحتوم في محارق الإبادة الجماعية. كان والداي يحضران جلسات مدرسة الأحد الأسبوعية حتى بلغت الثانية عشرة.

وقصص التوراة التي كانت تروى في هذه الجلسات نادراً ما كانت تعلق بذاكرتي. ولكن الموسيقي والتراتيل الخاصة بألحان بول روبون والتي كان يعزفها أبي كانت مجرد بداية :

كان هناك ثلاثة فتيان من أرض إسرائيل شدرخ وميشح وعبد نغو.

في الأغنية ، قام نبوخذناصر، ملك بابل الشرير، بالاحتفاظ بصفوة الشعب اليهودي من يهوذا، أسرى في عاصمته وصنع تمثالاً من ذهب وأمر " الفتيان " ( الذين هم أمراء صغار من مملكة يهوذا ) :

يجب أن تخروا سجوداً وأن تعبدوا التمثال يا شدرخ وميشح وعبد نغو .

وعندما رفضوا أمره ، كما يخبرنا كتاب دانيال في العهد القديم ، " طرحوا داخل الأتون المستعمر ". ولكنهم لم يصبهم أي أذى ، كما يمكن أن يخبرك أي مسيحي أو يهودي مؤمن ، بعد أن حفظهم الله القدير.

و"خرجوا دون أن تؤذي النار أجسامهم ولم تحترق شعرة من روؤسهم ولم تعلق بهم رائحة النار". ( 3 دانيال : 11 – 25 ).

وفي دروس اللغة الإنجليزية ، قبل أن أنضم للخدمة العسكرية في أوربا المحتلة بعد الحرب 46 – 1947 ، كلفت بدراسة " التوراة كأدب حي ".

ذكريات غابرة

إن أمجاد وخطايا أشور وبابل وأسر يهود إسرائيل القديمة ويهوذا هي بمثابة تاريخ حي للباحثين اليهود والأصوليين والمسيحيين والمدافعين عنهم الذين يلعبون دوراً هاماً في منظومة الدعم الأيديولوجي والعاطفي في الولايات المتحدة.

فلكل مائة أمريكي يحارب في العراق منذ عام 2003 هناك غالباً عدد مساو أو يزيد من المسيحيين الموالين للصهيونية من أمثال بات روزنبرج وأعضاء الكونجرس الأمريكي من أمثال العضو الجمهوري توم ديلاي عن تكساس، وبالطبع الرئيس جورج بوش الذي نظر إلى الحرب على الإرهاب باعتبارها صراع بين الخير والشر.

وبالنسبة لكل من يحاول سبر أغوار الشرق الأوسط يصبح دائماً من الخطأ الفادح تجاهل التاريخ القديم. فالأسباب الداعية إلى وجود أشد أنصار إسرائيل تعصباً في الولايات المتحدة ، بما فيهم بعض مستشاري جورج بوش المقربين ، هي أن حلفاء الساسة والجنرالات اليمنيين والمتدينين في إسرائيل اليوم موجودين في هذه القصص الغابرة.

وهم ينطلقون من أعماق قصص التوراة والتاريخ والأساطير ، وخاصة دراما الإسرائيليات القديمة وأباطرة الشرق ، من الملك حامورابي ملك بابل إلى الإسكندر الأكبر الذي فتح العالم ثم توفى في بابل عام 323 قبل الميلاد. وطوال قرنين من الزمان عاش الكثير من فتيان إسرائيل في الأسر البابلي وعادوا إلى فلسطين تحت قيادة النبيين عذرا ونحميا.

وقام بعض مؤيدي إسرائيل وبعض الإسرائيليين المولودين في العراق بادعاء ملكيتهم لممتلكات اليهود العراقيين المهاجرين المنهوبة في العراق الحديثة. وهذه الدعاوى تعود إلى سنوات حكم صدام حسين المستبد. ، ولكنها أيضاً تعود إلى حكام العراق السابقين حتى قبل إنشاء إسرائيل عام 1948. والدراسة الإحيائية للعراق وبابل وبغداد في التاريخ القديم وخاصة التاريخ اليهودي تساهم في شرح وفهم مغالق الصراع على مستقبل العراق.

وبلاد ما بين النهرين القديمة أو بلاد الرافدين ( ميزوبوتاميا ) تظهر في قصص التوراة المثيرة للدهشة وفي روايات المؤرخين بدءً من هيروديت باعتبارها " مهد " الحضارة. ومنذ الأزمنة القديمة ، سواء وافقت على نظريات التطور التاريخي الأرثوذكسي ، أو " الخلق " الذي أحياه بعض المسيحيين الأصوليين المتحمسين أم لا ، فإن بلاد ما بين النهرين ارتبطت على نحو وثيق باليهود واليهودية. وتبعاً لسفر التكوين ، أول كتب العهد القديم ، فإن جنة عدن كانت توجد بالقرب من الجرف الذي انفصل ليكون ما أصبح يعرف اليوم بنهري دجلة والفرات.

وقام السومريون القدامى ، وخاصة في ملحمة جلجامش، بإبداع قصص الخلق الخاصة بهم. فقد تحدثوا عن الطوفان العظيم مقارنة بقصص التكوين في طوفان الكتاب المقدس ونوح وفلكه. وأسطورة الخلق السومرية هذه تمثل أحداث طبيعية ليست نتاج أمر إلهي ولكنها نتيجة للصراع بين الآلهة. وقد نجا نوح القاطن في مدينة سومر والذي أطلق عليه اسم أوتابشتيم من الطوفان العظيم من خلال قوته البدنية وليس بسبب فضائله الأخلاقية كما جاء في التوراة.

بدأت الصراعات بين اليهود وأعدائهم في عهد التوراة. فقد تحدت جيوش الإمبراطورية الآشورية سلطة السوريين من خلال الزحف انطلاقاً من بلاد ما بين النهرين على فلسطين. ومنذ عام 950 قبل الميلاد والسوريون يتحركون داخل الأراضي الآشورية في الشرق، بينما يحاربون في الجنوب والغرب مملكة إسرائيل. ونحت سوريا وإسرائيل العداوة جانباً من أجل صد الخطر الآشوري. ومعاً قاما بمواجهة الآشوريين وهزموهم في معركة " قارقار " بسوريا. وسرعان ما تحول الحليفان المؤقتان إلى قتال بعضهما البعض.

أسرى بابل

في عام 841 قبل الميلاد استأنف الآشوريون عداونهم مرة أخرى. وهذه المرة اختار ملك إسرائيل يهوا إخضاع سوريا بدلاً من التحالف معها والتي صمدت في وجه هجمات الآشوريين لمدة أربع سنوات. وبعد ذلك شن الملك الآشوري المحارب تغلث فلاسر الثالث ( 752 – 742 ) الحرب ضد الملك مناحيم. وقد حاول السوريون ، بلا جدوى تجديد لتحالف القديم مع إسرائيل. بدلاً من ذلك ، قام الملك أحاز ملك يهوذا ( 732 – 716 قبل الميلاد ) بطلب مساعدة الآشوريين. وقام تغلث فلاسر بالهجوم على السوريين وحصار دمشق ، عاصمتهم واستولى عليها عام 732 قبل الميلاد. ثم تحول إلى إسرائيل ومنع تقديم المزيد من الدعم إلى السوريين وسبى الإسرائيليين ونقلهم إلى أشور ( كتاب الملوك الثاني 15 : 29 ).

وحينما توفى تغلث فلاسر ، توقف اليهود عن دفع الجزية إلى الآشوريين وتحالفوا سراً مع مصر. وقامت أشور ، رداً على ذلك ، بحصار السامرة حصاراً طويلاً والاستيلاء عليها في النهاية. وتم أسر العشرة أسباط الشمالية الباقية في إسرائيل إلى أشور وانهارت مملكتهم. وأطلق أنبياء اليهود على ذلك انتقام الرب من وثنية إسرائيل ونقضهم لعهود الله ( عاموس 5 : 1 – 15 ). ولا يسجل التاريخ أن الأسباط العشرة المفقودة لإسرائيل قد عادوا أبداً إلى الوطن.

وهدد حكام أشور العدوانيون والمحاربون بالتخلص من النفوذ المصري في سوريا وفلسطين. وقام أخزيا ملك يهوذا ( 716 – 686 قبل الميلاد ) بتأليب مصر وسوريا ، الأعداء بالفعل ، ضد بعضهما البعض ووقفت يهوذا على الحياد.
وفي عام 701 قبل الميلاد قام الجيش الآشوري بقيادة الملك سيناشريب ، وهو ملك شرير أخر من بلاد الرافدين بغزو أورشليم. ومع ذلك فإن الهيمنة العسكرية الآشورية بدأت في الانحسار. وانتزعت بابل حريتها من الاستبداد الآشوري. وبدءً من عام 626 قبل الميلاد شنت بابل المستقلة الجديدة سلسلة من المعارك أدت إلى الانهيار الكامل لما كان يعرف باسم الإمبراطورية الآشورية.

وفي ذلك الوقت قام نيخو ، فرعون مصر ، بالتدخل محاولاً حماية ممتلكاته من خلال التحالف مع فلول جيوش أشور. وأدى ذلك إلى لفت انتباه البابليين الذين هزموا المصريين في معركة كاركميش عام 605 قبل الميلاد. كانت يهوذا خاضعة في ذلك الوقت وكان عليها أن تدفع الجزية ولكن قام ملكها ياهوياكيم بالتمرد فيما بعد. وفي عام 597 قبل الميلاد قامت الجيوش البابلية والكلدانية بقهر المدافعين عن القدس وقامت بأسر 3023 يهودي وأخذتهم إلى بابل. وكان ذلك أول أسر جماعي لليهود من ثلاثة. وكان الثاني عام 587 قبل الميلاد والثالث عام 581 الذين أشتمل على 832 و 745 أسير على التوالي ( أرميا 52 : 29 – 30 ). كانت هذه هي النهاية المحتومة لمملكة يهوذا.

إن إحدى النقاط التي يركز عليها باحثو التاريخ القديم اليوم، أياً كانت معتقداتهم، والتي يبدوا أنهم يتفقون جميعاً عليها، هي قوة وثراء الملك نبوخذناصر الثاني ( 604 – 562 قبل الميلاد ). وقد احتفظ بالأسرى اليهود واستخدم رهائنه من أجل تضخيم وتوسيع حجم وثراء بابل طوال سبعين عاماً من الأسر .

وقبل نحو ثمانين عاماً من صدور أمر صدام حسين بإعادة بناء قصر نبوخذناصر في بابل وذلك كرمز للأنا المتضخمة، قام إمبراطور السينما الصامتة في هوليود دي. دبليو. جريفث عام 1916 بتصوير بابل على أنها تجسيد لكل الشرور في العقل الأمريكي وذلك من خلال رائعته الكلاسيكية " لا تسامح " .

ويبين الفيلم إعادة بناء بابل على نحو بالغ البذخ والإسراف على مدى 178 دقيقة في النسخة الأكثر انتشاراً. وقد شوهد على نحو موسع في كل أنحاء أمريكا والعالم بنسخ مختلفة استغرق زمن عرض بعضها 208 دقيقة. وقد لعبت ليليان جيش وروبرت هارون وماي وكوكبة من نجوم السينما الصامتة أربعة قصص متشابكة للظلم واللاإنسانية ( وهي موضوعات تطورت إلى حد ما بواسطة جريفث عام 1915 في ملحمته العنصرية للحرب الأهلية بعنوان " مولد أمة " ). واستمرت القصص منذ حقبة بابل وحتى الحرب العالمية الأولى.

إعادة بناء بابل

كان أحد الأحلام التي تداعب مخيلة صدام حسين ، خلال فترة حكمه الاستبدادي الذي استمر ربع قرن ، إعادة بناء بابل كما كانت في ذروة مجدها خلال 2500 عاماً من التاريخ البابلي. كانت رؤية صدام تشبه بعض صور هوليود التي عرضها جريفث.

كان ما في ذهن صدام مختلفاً في مجمله عن بابل حمورابي القديمة ( 1792 – 1750 قبل الميلاد ) والذي وضع قانوناً تفصيلياً يحكم البشر. ولكنها بابل نبوخذناصر الثاني حيث اتسعت إمبراطورية بابل لتبتلع منطقة غرب آسيا. وقد استمرت فقط لمدة أربعين عاماُ خلال سبعين عاماً لنبوءة إشعيا عندما قامت بابل بالاحتفاظ باليهود الأسرى القادمين من فلسطين. وقد استخدم نبوخذناصر عقولهم وأجسادهم لبناء معابد بابل ومبانيها العظيمة ومنشآتها التي تزخر بالأبهة والمجد. كان ذلك هو الازدهار الأخير لذروة الحضارة البابلية.

وقد انتهت بمجيء الإمبراطور سيروس إمبراطور فارس في عام 539 قبل الميلاد. وقد استمر الاحتلال الفارسي خلال أسرة ملكية فارسية أخرى هي أسرة أخمنيدس حتى استولى الإسكندر الأكبر على المدينة عام 331 قبل الميلاد.

وفي أحد الأيام في منتصف الثمانينيات ، صدرت الأوامر إلى دوني جورج ، الأمين المساعد لمتحف بغداد للأثار ( الذي تم نهب كنوزه بعد فترة قصيرة من دخول الجيش الأمريكي إلى بغداد في إبريل 2003 ) ، للاستعداد لزيارة موع بابل القديمة. وقام صدام حسين وطغاته من الحرس بالتوجيه إلى أطلال المدينة وأمره بإعادة بناء أحد قصور نبوخذناصر الثلاثة وذلك في أول مهرجان فنون بابل عام 1987.

وقام جورج بجولة بمصاحبة الديكتاتور ، كرهاً لا طواعية ، أرشده فيها إلى أطلال القصور. وسأله صدام كيف علم بوقت بناء القصور الأصلية فأراه جورج قطعة أصلية من قرميد القرمين المستخدم في البناء. وكان يوجد على القطعة اسم نبوخذناصر الثاني وتاريخ البناء محفوراً بالحظ المسماري في عام 605 قبل الميلاد. ( وهذه القرميدات تم العثور عليها بواسطة القوات الأمريكية والبريطانية المحتلة في عام 2003 كما عثر عليها من قبل الكثير من المستكشفين وعلماء الآثار حيث كانت قصور ومعابد نبوخذناصر المشيدة للإله البابلي مردوخ).

وأمر صدام دوني جورج بأنه عند إعادة بناء قصر نبوخذناصر فإن " اسم صدام حسين وتاريخ البناء يجب أن يظهرا بنقش مشابه على القرميدات الجديدة ". وكان أمرا خطيراً ، وحتى مميتاً ، أن يقوم بإبداء أي اعتراض على ما أراده صدام ، كما أشار إلى العاملين معه الذين استبد بهم القلق. ولكن العديد من علماء الآثار خارج العراق اعترضوا بقوة على ما اعتبروه " مدينة ملاهي الطاغية " حسب وصف نيل ماكفاركور بجريدة النيويورك تايمز.

كان اقتراح صدام ينتهك مبدأ مقدساً من مبادئ العلم ألا وهو عدم إعادة بناء الآثار القديمة ولكن القيام بالحفاظ عليها كما هي.

وقد ذاع أمر المشروع في كل أنحاء العراق وفي أماكن أخرى من العالم العربي وخاصة في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى التي كانت تتلقى رشاوى مستمرة من حصيلة مسروقات صدام. وأشادت وسائل الإعلام بأوامر صدام المجيدة لإحياء أمجاد الحضارة البالية والآشورية في العراق المعاصر. وقد واصلت فرق العمل الليل بالنهار في ثلاث نوبتجيات من أجل تنفيذ النسخة التي أرادها صدام بتكلفة بلغت 5 مليون دولار. فإذا قمت بزيارة بابل قبل حرب 2003 ونظرت إلى وحدات طوب الحوائط سوف تقرأ ما يلي على الكثير منها :

" في عهد القائد المنتصر صدام حسين ، رئيس الجمهورية ، حفظه الله ، حامي حمى العراق وباعث نهضته وباني حضارته العظيمة ، تمت إعادة بناء مدينة بابل العظيمة في عام 1987 ". وفي الأسفل ، يظهر اسم نبوخذناصر الذي يربط بين الاثنين ( أو هكذا تخيل صدام حسين بذاته المريضة ). كان القصر لا يزال تحت البناء في يوم قائظ من أيام عام 1987 حينما قام المؤلف بالقدوم من بغداد في ظل القصف الجوي الإيراني.( انتهت الحرب الإيرانية – العراقية ، التي بدأها صدام من خلال غزو إيران في عهد أية الله الخميني ، عام 1988 ).

وأثناء سيري على الطريق الرئيسي القادم من بغداد ، لم أر سوى المتاريس والاستحكامات. وتحت لهيب الشمس المحرقة ، كان يجري الحفر على قدم وساق تمهيداً لإعادة البناء. وفجأة شاهدت طرق بابل المنخفضة العميقة حيث كانت توجد كل المباني الرئيسية في الأزمة القديمة. ويبين المتحف الموجود بالموقع أن الأسوار كانت عالية ومزينة على نحو جميل. وعند المدخل الرئيسي ، كانت هناك نسخة مصغرة من بوابة عشتار مغطاة بالقرميد المطلي بالجليز ومزخرفة بأشكال ثيران وأسود. ( قام علماء الآثار الألمان بنقل الكثير من القطع الأصلية إلى برلين بعد عام 1914 ، ويجب عليك القيام برحلة إلى متحف برجماون في برلين لرؤيتها اليوم ). والثيران والأسود تم وضعها بدلاً من الأسود والوحوش التي تشبه التنين على الواجهة.

وقد كشفت الحفريات التي قامت بها بعثة الآثار الألمانية من عام 1899 إلى عام 1917 على مساحة قدرها 2100 أكر في المدينة القديمة عن وجود الكثير من أطلال الحقبة الأخيرة ( بابل الجديدة ) . وإلى جانب بوابة عشتار ، قام الألمان بالتنقيب عن معابد بابل بما فيها إيساجيلا أو معبد مردوخ ، الإله الأعظم الذي كانوا يعبدونه ، والبرج الذي يعتقد بعض الباحثين أنه البرج التوراتي لبابل.

وكشفت الحفريات أيضاً عن أطلال المنازل القديمة. وفي شمال شرق بابل وجدوا مسرحاً ، بني غالباً في عهد الإسكندر الأكبر وتم تجديده في عصر ملوك فارس. وقامت هيئة آثار صدام حسين بترميم أو إعادة بناء أجزاء رئيسية من هذه المواقع إلى جانب قصر نبوخذناصر.

ومنذ الحرب والاحتلال في ربيع وصيف عام 2003 ، كانت القطع الوحيدة التي بقيت في المتحف في موقع بابل عبارة عن جزأين كبيرين مما بدأ أنه الأسوار الأصلية. وقام طاقم العاملين مع دوني جورج ، حينما لموا نهب متحف بغداد ، بنقل الألواح الطينية الأثرية إلى غرف محصنة وآمنة في بغداد للحفاظ عليها بعيداً عن أيدي اللصوص.

وعلى مدى القرون ، كان اللصوص يعملون من خلال مدينة الهلال المجاورة التي تم بناءها بواسطة القرميد المنهوب من أطلال بابل في العصور الوسطي. وبدءً من صيف عام 2003 فصاعداً ، كانت ساحة للكمائن القاتلة المنصوبة للقوات الأمريكية.




أم كل البغايا

قدم كل من المؤرخين المتدينين والعلمانيين الوقود اللازم للجدل الدائر بين المسيحيين الأمريكيين الجدد وغيرهم مثل الرئيس جورج بوش بشأن عراق صدام حسين كبقعة لصناعة الشر. وهناك ، مساندة واسعة من العهد القديم لرؤية بابل ، على وجه الخصوص ، كمركز للشرور والفساد والظلام.

فتبعاً لأحد التعليقات عن تاريخ بابل والتي تم تداولها مع تجمع سحب حرب عام 2003 في الأفق " كل الأنظمة الكاذبة للدين بدأت في أرض بابل وحققت اكتمالها عبر روح بابل في الأيام الأخيرة ". كما يشير التعليق إلى كيفية قيام "الرب بتدمير برج بابل ومعاقبة استكبار الناس من خلال خلق تشوش اللغات المختلفة واختلاف الأعراق".

ويشير أحد الباحثين الألمان إلى السمعة السيئة لبابل بين اليهود باعتبارها " دولة معادية للرب " نظر إليها الكثير من المسيحيين باعتبارها " أم كل البغايا " والشرور والآثام على الأرض. واعتبرت حقبة برج بابل ( سفر التكوين 11 : 1 - 9 ) مصدراً لتشوش اللغات وتشتت الناس حول العالم.

قام المؤرخون والرحالة برسم صور متنوعة ومتناقضة أحياناً لما حدث لبابل. ويبدو سقوطها ناجماً عن تدهور تدريجي ، وليس تدمير مفاجئ بسبب انتقام الرب. وعلى أي حال ، يبدو انحلال المدينة ، تبعاً للباحثين الإنجيلين والأصوليين ، قد جاء تحقيقاً لنبوءات أسفار العهد القديم إشعياء وإرميا. وقد اعتبروا ذلك عقاباً إلهياً للبابليين بسبب تدميرهم أورشليم وطرد مواطني يهوذا.

ويصف الرحالة الإغريق ، بدءً من هيرودوت " أبو التاريخ " ( 484 – 425 ) ، بابل باعتبارها عاصمة مترامية الأطراف ذات أسوار تمتد لمسافة 60 ميلاً. ومع ذلك في عصر الرومان ، كانت بابل تختفي تدريجياً من الخرائط وتتلاشى من الذاكرة.

ومع سقوط الإمبراطورية الرومانية وانسحاب جيوشها من الشرق الأوسط ، تحطمت أسوار بابل وسقطت أيضاً. وأدى الإشارة إلى مجدها القديم إلى التأكيد على أن المسيحية، الدين الجديد والشرعي لروما وبيزنطة ، قد ربحت المعركة. كانت بابل رمزاً لخطايا الإنسان وانتقام الرب ، كما حدث في سدوم وعمورة.

وكتبت أرملة عالم الآثار كلودياس ريتش ، أول من قام في العصر الحديث بدراسة موقع بابل ، كتبت تقول أن " الرب لم يتحدث عن بابل إلا بكل سخط ". ونظر الآباء المسيحيون الأول إليها على أنها رمزاً للفساد. وقد استخدموا لفظ بابل كدلالة على روما الوثنية ، عدو الكنيسة وذلك حتى حكم قسطنطن ( 306 – 337 ميلادية ). وبحلول القرنين الحادي عشر والثاني عشر ، حينما بدأت الحملات الصليبية حربها ضد هيمنة العقيدة الجديدة، الإسلام، في بداية العصور الوسطي ، بدأت بابل التحول نحو المسيحية وذلك تحت تهديد جيوش المسلمين.

المنفيون اليهود

كان مئات الألوف من اليهود لا يزالون يعيشون في ظل أطلال الإمبراطورية الفارسية. وأشتمل ذلك على ذرية أولئك الذين اختاروا البقاء في بابل بعد انتهاء الأسر وغادرهم من اختاروا العودة إلى فلسطين.

وبعد أن أدى الفتح العربي إلى القضاء على الدولة الفارسية ، تمتع اليهود فيما كان يطلق عليها بابل القديمة ، والذين تعرض مجتمعهم للقلاقل الاجتماعية في ظل الحكم الفارسي ، تمتعوا بالاستقرار في ظل حكم الحلفاء الراشدين عمر وعلي.
وتسجل المؤرخات اليهودية أن الحكام العرب الجدد ، في ظل إتباعهم لأوامر النبي محمد التي تنهي عن التدخل في حياة اليهود والمسيحيين ( أهل الكتاب )، شجعوا التجديد والنهضة الثقافية بين اليهود والمسيحيين الذين كان يجب احترامهم. وفي ظل التعايش السلمي بين البيروقراطية الإسلامية والمؤسسات غير المسلمة المستقلة ، أصبح اليهود قادرون على إعادة بناء نظام الحكم الذاتي القديم.

وكان رئيس الجزء العلماني من الإدارة اليهودية المستقلة يدعى عميد المنفى. وهذا المنصب قد نشأ في ظل الهيمنة القديمة للفرتيون والساسانيون. وكان يفترض أن يكون عميد المنفيين منحدراً من نسل الملك داوود ملك إسرائيل ( 1000 – 961 قبل الميلاد ) وكان يتم توريث هذا المنصب لأبنائه. وكان أحد هؤلاء العمداء الذين اشتهر اسمهم في التاريخ اليهودي يدعى بستاني. وقد ورث منصبه إلى أبنائه من زوجته اليهودية وقام الكثير من اليهود بالزواج من الفرس والإغريق المقدونيين في زمن الإسكندر الأكبر. وقام الممثلون المنتخبون والوارثين لمناصبهم ليهود العراق بإدارة الضرائب المجنية من اليهود أمام الحكام المسلمين. وقد كانوا مكلفين بوظائف قضائية واجتماعية معينة لإدارة اليشيفوت ، المجتمع اليهودي في المنفى.

وخلال ازدهار الحضارة والرخاء في بغداد في القرن الثاني عشر، شهدت العاصمة الجديدة لبلاد الرافدين اتساعاً ضاهى بابل في الحجم والحداثة ، حيث قام أحد الرحالة اليهود من أسبانيا ، ويدعى بنيامين بن تودلا، بزيارة المدينة في عام 1168 ميلادية. وفي مذكراته يصف " الشرف والحظوة " التي كان يتمتع بها العميد اليهودي دانيال بن حاسداي ( 1150 – 74 ميلادية ) في بلاط الخليفة. ففي كل خميس كان يجتمع لدى الخليفة مشاهير الدولة وكان من بينهم زعماء المجتمعين المسلم واليهودي. وكان عميد الطائفة اليهودية يجلس إلى جانب الخليفة بينما لم يكن يستطيع شرفاء المسلمين الجلوس في حضرة الخليفة. ويكتب رحالة يهودي أخر ، بتاحيا من روجنسبرج، عن مديري المجتمع اليهودي في الموصل، شمال العراق ( المدينة التي يختلط فيها العرب والأكراد والتركمان من الطوائف المسلمة والمسيحية، كما اكتشف المحتلون الأمريكيون للمدينة عام 2003، ولكن دون وجود لليهود ) الذين كانوا يعاقبون الخارجين على القانون حتى لو كانت القضية تضم مسلمين. وكانت تحتوي الموصل على سجن خاص بها.

ومنذ منتصف القرن الثالث عشر ميلادية كان العراق، لمدة قرن تقريباً ، ساحة قتال بين السلاطين العثمانيين وملوك الفرس. وقد استمر ذلك على نحو متقطع حتى عام 1638 حيث قام العثمانيون في النهاية بضم بغداد وباقي العراق إلى إمبراطوريتهم. ومع ذلك، فقد تمتع الباشاوات في بغداد والموصل بالمزيد من الاستقلال عن المناطق الأخرى في العراق.

كان على المجتمعات اليهودية والمسيحية والأقليات الأخرى أن تعتاد على المعيشة في أماكن منعزلة. لقد كانت بغداد في يوم من الأيام مركزاً للثقافة والتجارة والتحضر، ولكنها الآن أنهكتها الحروب وعزلت عن الطرق الرئيسية للتجارة العالمية. وقام زائر يهودي من اليمن، زار بغداد بعد عام 1550، بالإشارة إلى الأضرحة الشهيرة في العراق لحزقيال وعزرا.

ترميم المذبح

في بدايات أغسطس 2003، بينما كان هناك العديد من البقاع التاريخية القديمة في العراق تتعرض للنهب والسلب، قامت كيت سيلي، ابنة الدبلوماسي الأمريكي السابق تالكوت سيلي، ومراسلة الإذاعة الوطنية الأمريكية، بالكشف عن مذبح يهودي قديم جنوب بغداد. ويعتقد أنه ضريح النبي حزقيال. وقد عثرت على المذبح ومعبده بالقرب من قرية الكفل بواسطة أفراد من قبيلة بني حسن المسلمة. وكان أفراد القبيلة يحرسون الموقع منذ رحيل الجالية اليهودية الصغيرة عام 1948 بعد إقامة إسرائيل.

أعجبت سيلي بالمشهد الرائع المحيط بالمكان حيث كانت أشجار النخيل تصطف على شاطئي نهر الفرات والتي قد يعود تاريخها إلى آلاف السنين. وكان من الواضح أن الكفل ضاحية من ضواحي بابل القديمة على بعد 20 ميلاً شمالاً. وفي عهد الملك نبوخذناصر، كانت تأوى الكثير من اليهود الذين تم نفيهم إلى بابل من أورشليم في القرن السادس قبل الميلاد.

ويقال بأن حزقيال عاش ودفن في الكفل بعد أن قام بإحياء الطقوس اليهودية بعد النفي البابلي. وقد تم تشييد هذا المعبد بعد وفاته. وقد شاهدت سيلي، من خلال إرشاد شيخ القبيلة وعمدة القرية الشيخ أحمد حبيب كتابات عبرية على الحوائط. وفي إحدى الغرف العلوية أخبرها العمدة بأنه يعتقد أن اليهود كتبوا فيها التلمود اليهودي. كما أضاف أن الغرفة كانت تحتوي على مكتبة تضم نصوص عبرية قديمة، حتى أمر صدام حسين بنقلها إلى بغداد في أواخر السبعينات. وتحتوي النقوش العبرية على مذبح خشبي ومقبرة حجرية منخفضة يقال أنها لحزقيال. وفوق سطح المقبرة يوجد الكثير من أوراق النقد من العراق وإيران وباكستان تركها العديد من الزوار المسلمين عبر السنين. وقد أخبرها الدليل كيف يبجل المسلمون حزقيل باعتباره أحد رسل الله. وعندما قام حوالي ثلاثون يهودياً كانوا يعيشون في الكفل في الثلاثينات والأربعينيات بالرحيل، قام والده بإتباع تعاليم القرآن لحراسة الأماكن المقدسة لأهل الكتاب. وقام نظام صدام باضطهاد والده بسبب حراسته للمذبح اليهودي وقام بإعدامه في الثمانينيات.

وصف مايكل جفوللر، أحد المسئولين المدنيين لسلطة الاحتلال الأمريكي للعراق، قبيلة بني حسن بأنها " مذهلة في نبلها ".

وأضاف أن المذبح هو رمز للتعايش بين المسلمين واليهود و" أحد أهم المواقع التاريخية اليهودية في الشرق الأوسط. وكان هناك دائماً معبداً يهودياً وذلك خلال الألفين وستمائة عام الأخيرة. وفي عام 1948، كان على الأرجح أحد أقدم المعابد في العالم ".

وقال جفوللر أنه كان يشجع الخبراء الدوليين على دراسة والحفاظ على الموقع. وقد أعلن العمدة موافقته على ذلك. وهو يستطيع أن يتخيل الوقت الذي يتم فيه ازدهار القرية بسبب السياحة إلى الموقع والوقت الذي يتم فيه الترحيب بيهود القرية مرة أخرى.

كان هناك باحثين يهود عراقيين في القرن السادس عشر وبعد ذلك. وقد دفع ذلك المجتمع اليهودي العراقي إلى إحالة المسائل الخاصة بالموضوعات الدينية إلى الحاخامات في حلب بسوريا. وقد انتقل بعض باحثي حلب إلى بغداد واستقروا هناك.

ومع ذلك، بينما كان اليهود العراقيون يستوردون الباحثين، فإنهم مع حلول أواخر القرن الثامن عشر كانوا يصدرون التجار اليهود في بغداد والبصرة. وقد هاجر الكثير منهم إلى الهند. ومع إحكام سيطرة البريطانيين هناك تجمعت مستعمرة يهودية يحميها البريطانيون في سورات بالهند. ومع حلول أوائل القرن التاسع عشر، كان التجار اليهود ينتقلون إلى كالكتا وبومباي وبوتا. وكان من أبرز مؤسسي هذه التجمعات ساسون كلان، القادم من بغداد.

ساهم أعضاء هذه الجماعة المثقفين في التنمية الدينية والحضارية للمجتمعات اليهودية في الهند. وقد أقام التجار علاقات وثيقة مع تجار الشرق الأقصى ومع لندن، العاصمة التجارية والسياسية الصاعدة للإمبراطورية البريطانية. وتوطدت العلاقات الوثيقة في الهند بين يهود بغداد وعمالقة التجارة مثل شركة شرق الهند البريطانية التي كانت تمارس سلطات أشبه بسلطات الحكومة. وهذه العلاقات كان يمكن أن تؤثر على العلاقات والعقود داخل العراق نفسها في ظل الانتداب البريطاني في القرن الثاني عشر، بعد الحرب العالمية الأولى.

" إفشاء السلام في المدينة "

ازدهرت الحياة اليهودية في العراق حتى القرنين التاسع عشر والعشرين كما لم يحدث في أي مكان أخر للشتات اليهودي. وفي الكتاب المقدس قام النبي إرميا، بعد الاحتلال البابلي الأول لأورشليم عام 597 قبل الميلاد وبعد نفي أفراد الطبقات العليا بالمدينة إلى بابل، قام بإرسال خطاب إلى المنفيين. ونصحهم بأن يسكنوا في وطنهم الجديد وأن يقوموا " ببناء منازلهم والإقامة فيها وأن يزرعوا الحدائق ويأكلون منها الفاكهة ". وقد أمرهم بأن يتخذوا الزوجات وينجبون الصبيان والبنات وأن يزوجوا أبنائهم وبناتهم من أجل أن ينجبوا الفتيان والفتيات وأن يزيدوا ولا يقلوا. وأن يفشوا السلام في المدينة".

وقد مثلت تعاليم إرميا نظرية سياسة للحياة اليهودية في العراق، بما في ذلك العمل على تحسين المجتمع من حولهم. وقد التزم اليهود في العراق بهذه المبادئ خلال قرون الحكم الفارسي والعربي والعثماني التركي بعد سقوط بابل. وخلال هذه القرون العشرين، لم توجد دولة عراقية مستقلة. وقد حكم الأتراك العثمانيون، بدءً من القرن السابع عشر الميلادي، كل مجتمع مستقل في بلاد الرافدين بطريقة مختلفة. وفضلوا المسلمين العرب السنة والمسيحيين واليهود على الفرس الشيعة لأن الإمبراطورية الفارسية كانت تمثل تهديداً دينياً وسياسياً للحكام العثمانيين في القسطنطينية.

ولكن منذ القرن الثاني عشر الميلادي، حينما أشار بنيامين بن تودلا إلى وجود 40 ألف يهودي في بغداد، يمارسون الطقوس الدينية في 28 معبداً و يتمتعون بالحظوة لدى الخليفة، بدأت الأمور في التغير. وقد تدهور الحال باليهود العراقيين تدريجياً. وبعد عام 1500 لجأ اليهود العراقيون إلى العثمانيين المسلمين السنة لحمايتهم من الضغط المتزايد للإسلام الشيعي في الدولة الفارسية المجاورة. وقد احتفلوا بالانتصار العثماني عام 1678 على الفرس في موقع " يوم نيس " أو " يوم المعجزة ". ولكن تزايدت الهجرة اليهودية إلى الهند تدريجياً وتناقص عدد اليهود العراقيين.

وبحلول عام 1850، وتبعاً لإحصاءات الجمعية اليهودية الأمريكية، كان يسكن بغداد حوالي 300 يهودي فقط. في عام 1853 قاموا بالانضمام إلى الأغلبية العربية السنية للقتال ضد المتمردين الأكراد في شمال العراق.

اضمحلال النفوذ العثماني

ابتليت الهيمنة العثمانية في بلاد الرافدين بالكثير من الحوادث غير السارة في القرن التاسع عشر. ففي عام 1831 أدى انتشار وباء الطاعون إلى قتل 3000 شخص يومياً ولمدة أسابيع في بغداد. وكان نهر دجلة خلال الفيضان يجتاح شوارع بغداد. وأدى إلى إذابة المئات من المنازل والمساجد والمباني العامة المصنوعة من الطين. وكان اختراع التلغراف والسفن النهرية في نهر دجلة وافتتاح قناة السويس عام 1869، التي ربطت أوروبا بالمستعمرات العثمانية في الشرق الأوسط والأقصى، قد جاء بعد فوات الأوان لمساعدة الحكام العثمانيين على إحكام قبضتهم الضعيفة على مناطق الرافدين.

ومع ذلك، مع تراجع النفوذ السياسي العثماني، زادت ثروة ونفوذ التجار المسلمين والمسيحيين واليهود. وخلال هذه الحقبة من النمو غالباً زرعت بذور العداء بين الصهاينة، الذين جاءوا من العالم الغربي وخططوا وتأمروا لإقامة وطن قومي يهودي، وورثه يهود بابل الذين لم يهتموا كثيراً بالهجرة إلى فلسطين أو إلى أي مكان آخر.

وبدأ التجار اليهود في أواخر القرن التاسع عشر في الحصول على نصيب في الأجهزة الإدارية العثمانية التي نشأت في سبعينيات القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فقد كانوا غير قادرين على وضع سياسة معنية في الأمور المحلية الجوهرية مثل الضرائب أو الأشغال العامة أو الأنشطة الخيرية. وقد اعتاد معظم التجار أياً كانت ديانتهم رشوة الموظفين العثمانيين والأتراك العرب من أجل قضاء مصالحهم. ولكن هذه الوسيلة، كما يشير حنا بطاطو، أحد أشهر المؤرخين الاجتماعيين العراقيين، كانت مكلفة للغاية ولا يمكن الاعتماد عليها دائما. فالعديد من كبار التجار، الذين فاض الكيل بهم من البيروقراطية العثمانية القديمة المتصلة، قاموا بالتعاطف مع ومساندة الثورة الإصلاحية لحركة تركيا الفتاة عام 1908 وتمثيلها السياسي في اللجان الإصلاحية للاتحاد والترقي.

تم استلهام حركة تركيا الفتاة بواسطة الدستور العثماني المستنير لعام 1876. ونادى بذلك مدحت باشا ذو الاتجاه الإصلاحي، الذي كان يدير بغداد المزدهرة في الفترة من 1869 إلى 173. وبالاستعانة بأقاربه قام مدحت باشا بالإحاطة بالسلطان المستبد عبد العزيز ونصب ابن أخيه، مراد الخامس، سلطاناً. ( وقد أمضى مراد أربعة أشهر فقط على العرش قبل أن يطيح به النبلاء بعد أن اعتبروه فاقداً لقواه العقلية ).

الأمر الأكثر أهمية هو أن مدحت باشا كان هو المؤلف الرئيسي لدستور 1876 المستنير. ويعتقد بعض المؤرخين أن هذا الدستور لو كان قد تم العمل به فربما كان من الممكن أن يؤدي إلى إطالة عمر تركيا العثمانية التي أطلق عليها بواسطة الغرب لقب " رجل أوروبا المريض " بسبب إدارتها المتخفية والفاسدة. وربما شعر تحالف الاحتلال الأمريكي – البريطاني، الذي اعتبر الحكومة الفعلية في العراق عامي 2003 و 2004، بالفخر بسبب تبنيه مبادئه في الدستور الذي تم وضعه بعد سقوط صدم حسين. واشتمل الدستور الجديد على أن العالم كل لا يتجزأ وعلى حرية الفرد وحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية التعليم والمساواة في الضرائب وتأمين رواتب القضاة وقيام الحكومة البرلمانية على التمثيل الشعبي.

كان أعضاء تركيا الفتاة، الذين أرادوا تطبيق هذه المبادئ لسامية، منفيين في فرنسا وسويسرا وبريطانيا. وكانوا يأملون منع المزيد من التمزق الحادث للإمبراطورية التي فقد بالفعل معظم أراضي اليونان والبلقان، وكذلك ليبيا. وقد رغبوا في إعادة بناء الدولة على أساس ليبرالي وقومي.

وفي عام 1903، حاولوا تجربة بعض أشكال التعاون مع الأرمن ( لم تكن الإبادة الجماعية التي حدثت للأرض عام 1915 قد جاءت بعد ) والمقدونيين وتجمعات ثورية أخرى، على الرغم من أن ذلك لم يحدث مع العرب.

وقد ثبت أن عدم التعاون مع العرب كان خطئاً فادحاً خلال الثورة العربية التي ساندها البريطانيون بالتحالف مع عرب الصحراء خلال الحرب العالمية الأولى.

كان لمحاولات إصلاح وإحياء الإمبراطورية التركية الآيلة للسقوط بعض الآثار الجانبية العربية. ففي عام 1909، قام نائب يهودي عن سالونيك في اليونان المحتلة بواسطة تركيا ( مسقط رأس مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك ) يسمى كاروزا بالتعبير عن حماسه المتقد. وقد رغب في قيام مسيرة ضخمة إلى القسطنطينية والإطاحة بالسلطان المستبد عبد الحميد. كان كاروزا يتحدث باسم وفد أرسل إلى السلطان لكي يعلن أنه تمت الإطاحة به.

تم احتجاز السلطان في فيلا يمتلكها صيارفة يهود لجمعية الاتحاد والترقي. وبعد وقت قليل أصبح نائب برلماني يهودي أخر من سالونيك وزيراً لمالية تركيا. وأعرب السفير البريطاني في اسطنبول، السير جيرالد لوثر، في حديث خاص إلى وزير الخارجية السير إدوارد جراي، عن أن العناصر اليهودية في الأدميرالية التركية ومكتب الحرب، قد أصبحت " منيعة " لدرجة أن الدبلوماسيين الألمان بدأوا في دفع " إتاوة خاصة " من أجل الحصول على الامتيازات والصفقات التجارية.

وفي نفس الوقت، قامت جماعة مساندة للصهيونية تدعى الاتحاد الاستيطاني اليهودي العام بمحاولة إقناع حكام تركيا الفتاة الجدد بإحضار جماعات المستوطنين اليهود إلى العراق وفلسطين ومصر وقبرص وسوريا وشرق تركيا ( الأناضول ).

واقترحوا تمويل هذا المشروع الاستعماري بالكامل باستخدام الأموال الشخصية للمستوطنين والمساعدات القادمة من البنوك والجمعيات المؤسسة بهدف تسهيل الهجرة. وفي المقابل، قام الاتحاد بالتعهد بأن "إخواننا في الدين الذين يحتلون أرفع المناصب سوف يستخدمون كل نفوذهم من أجل التقدم السياسي والاقتصادي للحكومة العثمانية الدستورية". وفي خطاب يتحدث عن نقل العرض إلى لندن، أشار السفير لوثر إلى أن نفس الجماعة رغبت في إقامة "دولة يهودية مستقلة في بلاد الرافدين " بحيث تكون: " إنسانية بحته وليست سياسية. وتم تحقيق نجاح جزئي في هذه الخطة الأخيرة من خلال جماعة من اليهود متصلة بالأعمال الداخلية لجمعية الاتحاد والترقي. وبين هذه الجماعة جاك ميتناش ، الذي كان شقيق زوجته سكرتيراً خاصاً للوزير الأعظم وكان سحر زوجته له تأثير خاص على سموه ".

لم تسفر هذه المبادرة عن شيء ، ولكن انفتاح طرق الاتصالات الدولية من خلال اختراع التلغراف وافتتاح قناة السويس أفاد التجار وأصحاب الأراضي العرب والأكراد.

وكان أحد هؤلاء هو محمد شلبي صابوني وهو ابن أحد باعة الصابون الجائلين. وقد أصبح ديكتاتورا للموصل من ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى عام 1911. وقد حقق نفوذه السياسي من خلال كرم الضيافة العثماني التقليدي تجاه الشخصيات البارزة في مجتمع الموصل والرشوة والعلاقات الطيبة مع الإكليروس أو رجال الدين المسيحي والتبادل الحر للمعلومات مع زعماء القبائل المحلية.

وحينما وصلوا إلى السلطة في القسطنطينية ، طالب أعضاء حركة تركيا الفتاة بإجراء انتخابات لبرلمان جديد يشارك فيه الشعب تبعاً لدستور 1876. وانتخبت الأقاليم الثلاثة لبلاد الرافدين ( الولايات ) – بغداد والبصرة والموصل – 17 نائباً. ومع ذلك، جاءوا من خارج العائلات الشيعية والكردية واليهودية والمسيحية ولكن فقط من عائلات سنية قديمة مثلت بعد ذلك قادة النظام البعثي العراقي لصدام حسين. وفي القسطنطينية اكتشفوا أنهم ليس لديهم الكثير من الأشياء المشتركة مع الأتراك الشباب أو العجائز الذين يفترض أنهم يحكمونهم ولكن ذلك يتوافر مع العرب في الولايات العثمانية الحالية أو السابقة مثل سوريا أو مصر أو الجزيرة العربية أو اليمن. وحينما عادوا إلى الوطن تبادلوا مع زعمائه أفكار ومبادئ القومية العربية، التي ولدت خلال القرن التاسع عشر واحتضنت المؤسسات التعليمية المسيحية مثل الجامعة الأمريكية في بيروت.

انتشرت مبادئ " النهضة العربية " ( وهو عنوان كتاب رائد كتبه جورج أنطونياس، وهو مؤرخ فلسطيني متميز ) بجوانبها الثقافية واللغوية والتعليم الجامعي وحقوق المرأة وأمور أخرى، كالنار في الهشيم في معظم الولايات التركية. وفي الوقت الحالي لا تزال تلهم الكثير من محاولات النهضة العربية. كما أنها أيضاً دفعت بجهود الحكام العرب المعادين للديمقراطية تقمعها في عالم اليوم. وراقت هذه المبادئ بشكل جوهري للعرب في المناطق الحضرية. ولكنها لم ترق كثيراً لسكان القرى والبدو في بلاد الرافدين والمناطق العربية الأخرى التي كانت تخضع للحكم التركي على الأقل ولو بالاسم فقط.

وقد استغرق الأمر حربين عالميتين والصعود والسقوط السريع للاحتلال البريطاني والفرنسي للشرق الأوسط وظهور دولة إسرائيل الجديدة وحليفها الرئيسي الولايات المتحدة الأمريكية من أجل أن تتحول بلاد الرافدين إلى العراق الحديث. إن هذه العمليات المتصارعة عبر أحداث القرن العشرين المتلاطمة هي التي يجب علينا تناولها من أجل فهم العداء المتأصل في العراق ومعظم الدول العربية والإسلامية في وقتنا الحالي تجاه القوى الاستعمارية ، ثم بعد ذلك إسرائيل، وأخيراً الولايات المتحدة.