الثلاثاء، 15 سبتمبر 2009

الحائط الحديدي بين العرب وإسرائيل مقدمة

الحائط الحديدي بين العرب وإسرائيل
تأليف: آفي شليم
ترجمة: ناصر عفيفي
في عام 1907 قام إسحاق إبشتاين، وهو مدرس روسي المولد كان مقيماً بفلسطين، بنشر مقال بعنوان "سؤال مستتر" وذلك في المطبوعة العبرية المسماة "هاشلوحاه". وتضمن موضوع المقال موقف اليهود من عرب فلسطين. كتب إبشتاين يقول "ضمن الأسئلة الخطيرة المثارة حول مفهوم نهضة شعبنا على وطنه الخاص، هناك سؤال أكثر أهمية من كل الأسئلة الأخرى مجتمعة، وهذا السؤال يدور حول علاقتنا بالعرب". وأضاف قائلاً" هذا السؤال لم ينس ولكنه ظل خافياً تماماً عن الصهاينة ولم يطرح بصيغته الحقيقية في كل الكتابات التي تناولت حركتنا". ولم يلق معظم معاصري إبشتاين من الصهاينة بالاً إلى ما يقلقه. ولكن ها هو السؤال المستتر يعود مرة أخرى ليراود الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل عبر الخمسين عاماً الأولى من وجودها.
كان هدف الحركة الصهيونية، التي ظهرت في أوروبا في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، إعادة بعث الشعب اليهودي على أرض أجداده بعد ما يقرب من ألفي عام من النفي. ولقد تمت صياغة مصطلح "الصهيونية" في عام 1885 بواسطة الكاتب النمساوي اليهودي ناثان بيرنباوم، حيث أن كلمة "صهيون" هي أحد الأسماء الواردة في التوراة لمدينة القدس.
والصهيونية كانت في جوهرها حلاً للمشكلة اليهودية التي نشأت من حقيقتين أساسيتين: أن اليهود كانوا مشتتين في مختلف بلدان العالم، ويمثلون أقلية في كل بلد من هذه البلدان. وكان على الحل الصهيوني أن يضع حداً لهذا الاغتراب والاعتماد على الآخرين، والعودة إلى صهيون، لتكوين أغلبية، وفي النهاية الوصول إلى الاستقلال السياسي وبناء الدولة.
ومنذ تدمير المعبد الأول في عام 586 قبل الميلاد والنفي إلى مدينة بابل، واليهود يتحرقون شوقاً للعودة إلى صهيون. وقد تجلى هذا الحنين في الصلوات اليهودية وعبر عن نفسه في عدد من الحركات التبشيرية. أما الصهيونية المعاصرة، على النقيض من ذلك، فقد كانت حركة علمانية ذات توجه سياسي نحو فلسطين. وكانت الصهيونية المعاصرة إحدى ظواهر أوروبا أواخر القرن التاسع عشر. وكانت تستمد جذورها من فشل المحاولات اليهودية في الذوبان في المجتمع الغربي وزيادة العداء للسامية في أوروبا ومن تصاعد الوعي القومي الأمر الذي كان موازياً وغير منفصل عن بقية الأحداث. وإذا كان تنامي الشعور بالقومية قد شكل مشكلة لليهود من خلال تصنيفهم على أنهم أقلية غريبة وغير مرغوب فيها، فإنه قد اقترح أيضاً حلاً لهم ألا وهو حق اليهود في أن تكون لهم دولتهم الخاصة التي يمكن أن يمثلون فيها أغلبية. ومع ذلك، شكلت الصهيونية حافزاً لإنشاء ليس فقط دولة يهودية في فلسطين ولكن أيضاً مجتمعاً جديداً يقوم على المبادئ العالمية من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية.
والأب الروحي للصهيونية السياسية ومهندس الدولة اليهودية هو ثيودور هرتزل (1860-1904) ذلك اليهودي الذي ولد في المجر وكان يعمل صحفياً وكاتباً مسرحياً في فيينا عاصمة الإمبراطورية النمساوية المجرية. وكان هرتزل يهودياً ذائباً في المجتمع الذي يعيش فيه وليس لديه اهتمام خاص بالديانة اليهودية أو الشئون اليهودية. وقد أدى الجو المسمم المعادي للسامية الذي كان يحيط بفضيحة درايفوس في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر والتي قام بتغطيتها بصفته مراسلاً صحفياً في باريس لإحدى الجرائد اليومية بفيينا إلى إيقاظ وعيه بالمشكلة اليهودية. فقد توصل إلى أن الذوبان في المجتمع والانفلات من أسر العزلة لن يوجد الحل، لأن اليهود يشكلون قومية واحدة. فلم تكن مشكلتهم اقتصادية أو اجتماعية أو دينية ولكنها مشكلة قومية.
وبالتالي وبناء على كل ما تقدم يكون الحل الوحيد للمشكلة اليهودية مغادرة المنفى والحصول على وطن يمارسون فيه السيادة على أرضه ويقيمون دولتهم.
هذا هو الحل الذي دافع عنه هرتزل في كتابه الصغير الشهير الذي نشره عام 1896 باسم "الدولة اليهودية". لقد أصر على أن اليهود ليسوا مجرد جماعة دينية ولكنهم أمة حقيقية تنتظر الميلاد. وقدم الكتاب خطة مبدئية مفصلة للدولة اليهودية ولكنه ترك السؤال الخاص بما إذا كان يجب أن يكون موقع هذه الدولة هو فلسكين – بسبب ارتباطاتها التاريخية – أو في بعض الأراضي الخالية بالأرجنتين مثلاً. ويعتبر نشر كتاب الدولة اليهودية علامة فاصلة تشير إلى بداية تاريخ الحركة الصهيونية.
فقد ارتبط اسم المؤلف على نحو وثيق بالصهيونية السياسية، باعتبار أن المشكلة اليهودية هي مشكلة سياسية ذات تشعبات عالمية وأنها تحتاج إلى أن تناقش في منتدى السياسة الدولية. وكان هذا مناقضاً للصهيونية العملية المتمثلة في حركة "محبي صهيون" التي بدأت عام 1881 في عدد من المدن الروسية، في جو من الاضطهاد والمذابح في تشجيع الهجرة والاستيطان في فلسطين. وقد أدى أيضاً نشر كتاب الدولة اليهودية إلى رفع هرتزل إلى مرتبة الزعامة في الشئون اليهودية، تلك المنزلة التي ظل ينعم بها حتى وفاته عام 1904.
على نحو يتوافق مع توجهه السياسي الواضح، قام هرتزل بعقد المؤتمر الصهيوني الأول في عام 1897 بمدينة بازل بسويسرا. وكان من المقرر أن يعقد المؤتمر في ميونخ بسبب احتوائها على مطاعم تقدم الطعام الديني اليهودي "الكوشير". ولكن زعماء الجالية اليهودية بميونخ قد أحجموا عن استضافة المؤتمر، بحجة عدم وجود مشكلة يهودية وأن عقد المؤتمر يمكن أن يوفر الوقود اللازم للحركات المعادية للسامية. وقد نص برنامج المؤتمر على أن "هدف الصهيونية" هو إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين يحميه القانون العام.
ومن خلال تبني هذا البرنامج اعتمد المؤتمر مفهوم هرتزل السياسي للصهيونية. وقد تعمد برنامج مؤتمر بازل الحديث عن وطن وليس دولة للشعب اليهودي، ولكن من الآن فصاعداً أصبح الهدف الواضح والمتجدد للحركة الصهيونية إنشاء دولة للشعب اليهودي في فلسطين. وقد كتب هرتزل في مذكراته يقول "لقد وضعت أسس الدولة اليهودية في بازل. فإذا قلت ذلك اليوم بصوت مرتفع، فإنني قد أجابه بسخرية العالم. ولكن في غضون خمسة أعوام على وجه التقريب وفي غضون خمسين عاماً على وجه التأكيد، سوف يراها الجميع رؤية العين".
وقد فجر نشر كتاب الدولة اليهودية العديد من ردود الأفعال في المجتمع اليهودي، بعضها ودود وبعضها عدواني وبعضها يدعو إلى الشك. وبعد مؤتمر بازل قرر حاخامات فينا سبر غور أفكار هرتزل وأرسلوا مندوبين عنهم إلى فلسطين. هذه المهمة الخاصة بتقصي الحقائق قد انتهت ببرقية أرسلت من فلسطين كتب فيها الحاخامان "العروس جميلة، ولكنها متزوجة من رجل آخر".
لخصت هذه البرقية المشكلة التي كان يجب على الحركة الصهيونية أن تضع يدها عليها منذ البداية، ألا وهي مشكلة السكان العرب الذين يعيشون بالفعل على الأرض التي تتعلق بها قلوب اليهود، وكانت وجهة النظر السائدة تقول بأن الحركة الصهيونية، باستثناء القليل من الجماعات الهامشية، قد نزعت إلى تجاهل العرب الذين يعيشون في فلسطين وشكلوا ما أصبح يعرف باسم المشكلة العربية، ويضيف بعض النقاد أن ذلك التجاهل للسكان العرب من جانب الصهاينة هو الذي أطاح بإمكانية التفاهم بين الحركتين القوميتين اللتين تدعيان أن فلسطين هي وطنهما الأم.
والحقيقة أن الغالبية العظمى من الصهاينة الأول قد أظهروا على نحو يثير الدهشة القليل من الاهتمام بأرض فلسطين. والحقيقة أيضاً أن الشغل الشاغل لأولئك الصهاينة لم يكن واقع فلسطين بقدر ما كان المشكلة اليهودية والارتباط اليهودي بهذا البلد، ومع ذلك ليس صحيحاً أن نقول أن الصهاينة كانوا يجهلون وجود السكان العرب في فلسطين أو احتمال معاداة هؤلاء السكان للمشروع الصهيوني. وعلى الرغم من وعيهم بالمشكلة، فقد قللوا من خطورتها وعقدوا الآمال على أن الحل سوف يجئ من تلقاء نفسه.
لقد قام هرتزل نفسه باختبار النزعة الصهيونية للانغماس في تفكير قائم على الأمنيات. وكان بالتأكيد على وعي بأن فلسطين تسكنها بالفعل أعداد غفيرة من العرب على الرغم من أنه لم تكن لديه المعلومات الكافية عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية لهذا البلد. وكان ينظر إلى أهل فلسطين على أنهم بدائيين ومتخلفين ومع ذلك فقد كان متعاطفاً معهم على نحو متعال. فقد كان يؤمن بأنهم كأفراد يجب أن يتمتعوا بحقوق مدينة كاملة في الدولة اليهودية ولكنه لم يعتبرهم مجتمعاً له حقوق سياسية كاملة فوق الأرض التي يمثلون فيها الأغلبية الساحقة. ومثل الكثير من الصهاينة الأوائل الآخرين، كان يأمل في أن تؤدي المكاسب الاقتصادية إلى تصالح السكان العرب مع المشروع الصهيوني في فلسطين. لقد اعتقد أن اليهود، باعتبارهم حاملي لواء الحضارة الغربية بكل مزاياها، يمكن أن يجدوا الترحيب من قبل مواطني الشرق المتخلف. وقد تجلت هذه النظرة المتفائلة للعلاقات العربية – اليهودية في فلسطين كأوضح ما يكون في رواية نشرت لهرتزل في عام 1902 تحت اسم "الأرض الجديدة – القديمة". ويصف رشيد بك، أحد المتحدثين باسم السكان الأصليين في فلسطين، الاستيطان اليهودي على أنه نعيم مقيم حيث يقول "إن اليهود قد جعلونا ننعم بالرخاء، فلماذا يجب أن نغضب منهم؟ إنهم يعيشون معنا مثل الأشقاء، فلماذا لا نحبهم؟". ومع ذلك لم تكن تلك الصورة الوردية سوى حلم بعيد المنال. لقد أغفل مؤلف الرواية تماماً إمكانية تصاعد الحركة الوطنية في فلسطين كرد فعل تجاه المحاولات الصهيونية لتحويل البلد إلى وطن قومي لليهود يحتوي أغلبية يهودية.
وفي معرض الدفاع عن هرتزل يجب الإشارة إلى أنه في نهاية القرن التاسع عشر كانت فلسكين إحدى ولايات الإمبراطورية العثمانية، وكانت الحركة القومية العربية في بداية نموها هناك. وكان لا يزال تفضيله لأن يلعب لعبة السياسة العليا واضحاً. وكانت معظم جهوده المستمرة موجهة نحو إقناع السلطان العثماني بإصدار فرمان يسمح بالاستيطان اليهودي في فلسطين وإقامة يهودي في فلسطين. كما أنه أيضاً قد تقرب إلى الكثير من زعماء العالم وأصحاب النفوذ للمساعدة في تنفيذ مشروعه الأثير. وضمن أولئك الذين وجد لديهم أذاناً صاغية البابا وملك إيطاليا والقصير الألماني وجوزيف تشامبرلين وزير المستعمرات البريطانية. وفي كل مرة كان هرتزل يقدم مشروعه بأفضل طريقة تروق لمن يستمع إليه، فبالنسبة للسلطان وعده برأس المال اليهودي، وتعهد لقيصر ألمانيا بأن الدولة اليهودية سوف تكون نقطة مراقبة لبرلين، كما وعد تشامبرلين بأن الأرض اليهودية يمكن أن تكون مستعمرة للإمبراطورية البريطانية. وأياً كانت الحجج التي كان يستخدمها فقد ظل هدفه الأساسي ثابتاً لا يتغير ممثلاً في الاستحواذ على تأييد القوى العظمى لتحويل فلسطين إلى مركز سياسي للشعب اليهودي. وفي مرحلتها المبكرة، وطبقاً لتوجيه هرتزل، كشفت الحركة الصهيونية عن سمتين أساسيتين كانتا لهما أهمية جوهرية ومستمرة في تاريخها اللاحق، وهما عدم الاعتراف بالكيان القومي الفلسطيني والسعي نحو التحالف مع أي قوة عظمى غربية عن الشرق الأوس. وكان تجاهل الفلسطينيين اتجاهاً مميزاً للسياسة الصهيونية منذ المؤتمر الصهيوني الأول.
كان الافتراض الخفي لهرتزل وخلفائه يتلخص في أن الحركة الصهيونية يمكن أن تحقق هدفها ليس من خلال التفاهم مع الفلسطينيين المحليين ولكن من خلال التحالف مع القوى العظمى المهيمنة في أي وقت من الأوقات. وقد اجتمع ضعف المجتمع اليهودي في فلسطين قبل الاستقلال "اليوشوف" Yishuv، والعداء المتزايد للفلسطينيين معاً لكي يجعلا من الاعتماد على إحدى القوى العظمى عنصراً محورياً في الإستراتيجية الصهيونية. وتغيرت القوى العظمى المهيمنة على الشرق الأوسط مرات عديدة خلال القرن العشرين حيث كانت في البداية الإمبراطورية العثمانية ، وبعد الحرب العالمية الأولى أصبحت بريطانيا العظمى، وبعد الحرب العالمية الثانية أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن التأكيد الصهيوني على استخدام دعم القوى العظمى في الصراع من أجل إنشاء الدولة وترسيخ جذورها قد ظل ثابتاً.
كان حاييم وايزمان (1874-1952) هو مهندس التحالف بين الحركة الصهيونية وبريطانيا العظمى. والفرمان الذي أخفق هرتزل في الحصول عليه من الأتراك العثمانيين قد حصل عليه وايزمان من البريطانيين عام 1917 في صورة تصريح بلفور.
فقد قام وايزمان بتعضيد التحالف مع بريطانيا وجعله حجر الزاوية في السياسة الصهيونية طوال الفترة الطويلة والمميزة التي استمرت عبر النصف الأول من القرن العشرين.
ولد وايزمان في روسيا، وتلقى تعليمه الجامعي في برلين وجنيف وكان عضواً نشطاً في الحركة الصهيونية منذ بدايتها، كما حضر بعض المؤتمرات المبكرة. وفي عام 1904 انتقل إلى بريطانيا وشغل إحدى وظائف التدريس لمادة الكيمياء بجامعة مانشستر، ولكنه في منتصف الحرب العالمية الأولى توجه إلى لندن للإشراف على معمل خاص أنشأته الحكومة البريطانية لتحسين إنتاج قنابل لمدافع. وفي لندن قام بتدعيم القضية الصهيونية من خلال إجراء الاتصالات والاجتماعات في الدوائر السياسية العليا. ومن خلال مهاراته المتميزة في الدبلوماسية والإقناع سرعان ما وصل إلى القمة. وفي عام 1920 تم انتخابه رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية، وظل في هذا المنصب حتى عام 1946 باستثناء فقط الفترة من 1931 وحتى 1935. وعندما أنشئت دولة إسرائيل، شغل منصب أول رئيس لها حتى وفاته عام 1952 وقد تجلى أحد إسهامات وايزمان المبكرة في حل الصراع الدائم بين الصهاينة السياسيين والصهاينة العمليين. وقد أعطى الصهاينة السياسيين، متتبعين في ذلك خطى هرتزل، الأولوية للنشاط الدبلوماسي للحصول على التأييد العالمي للوطن اليهودي في فلسطين.
أما الصهاينة العمليون، على الجانب الآخر، فقد ركزوا على تنظيم الهجرة اليهودية إلى فلسطين وحيازة الأراضي والاستيطان وبناء اقتصاد يهودي هناك.
لم يكن الخلاف مجرد خلاف على أشياء ظاهرية ولكنه كان خلافاً حول المغزى الفعلي للصهيونية. وفي المؤتمر الصهيوني الثامن، عام 1907، أدخل وايزمان مصطلحاً جديداً وهو "الصهيونية التوفيقية" وأثبت أن المنهجين يدعم أحدهما الآخر، ويمثلان في الواقع، وجهان لعملة واحدة.
والمضمون السياسي للمصطلح الجديد، المتمثل في أن المنهجين يجب أن يمارسا على نحو متزامن، بدا أنه قد أرضى الفريقين.
وكانت معظم جهود وايزمان الخاصة موجهة نحو تجنيد دعم الحكومة البريطانية لصالح المشروع الصهيوني في فلسطين. ولم تكن لديه أية معرفة مباشرة بالمشكلة العربية ولا سياسة محددة للتعامل معها. وبشكل عام بدا أنه أن عرب فلسطين لا يشكلون مجتمعاً سياسياً منفصلاً له طموحاته القومية الخاصة به ولكنهم جزء ضئيل من الأمة العربية المترامية الأطراف وتوقع أيضاً أن تخفف المصلحة الشخصية من حدة معارضتهم للصهيونية.
ولم يكن يخامره أي شك في التفوق المعنوي للمزاعم اليهودية على المزاعم العربية في أرض فلسطين كوطن أم.
وقد تبلور موقف وايزمان تجاه عرب فلسطين، إلى حد بعيد، من خلال إستراتيجيته الأوسع المتمثلة في الحصول على الدعم البريطاني للصهيونية وكلما أصبحت مباحثاته مع الحكومة البريطانية أعمق وأكثر تعقيداً في إطار الحرب العالمية الأولى، كلما قل اهتمامه بالمتاعب المحلية مع عرب فلسطين. ومن أجل الحصول على تأييد بريطانيا لما أطلق عليه على نحو غامض كومنولث يهودي في فلسطين، فإنه قلل إلى أدنى حد من مدى خطورة المقاومة العربية المنظمة. ومع ذلك فقد وضع في اعتباره وهو يعرض قضيته ليس فقط إرضاء المصالح الإمبريالية البريطانية من خلال وجود دولة صديقة في منظمة ذات أهمية إستراتيجية كبرى ولكن أيضاً اللعب على تور المثالية البريطانية. وقد كللت جهوده بالنجاح، في 2 نوفمبر 1917، عندما كتب وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد خطاباً جاء فيه:
"إن حكومة جلالة الملكة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وسوف تسخر كافة إمكانياتها لتسهيل تحقيق هذا الغرض، ويجب أن يكون واضحاً أنه لن يتم عمل أي شيء من شأنه أن يمس الحقوق المدنية والدينية للتجمعات غير اليهودية في فلسطين أو الحقوق والمنزلة السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر".
ولقد اعتبر تصريح بلفور، بمجرد أن ترامى إلى الأسماع، انتصاراً ساحقاً للدبلوماسية الصهيونية. وفي وقت صدوره، كان عدد اليهود المقيمين في فلسطين حوالي 56000 نسمة مقابل 600 ألف من السكان العرب، أي أقل من 10% . وإذا وضعنا في اعتبارنا أن العرب كانوا يمثلون ما يزيد على 90% من عدد السكان، فإن الوعد الخاص بعدم المساس بحقوقهم المدنية والدينية كان وعداً أجوف، لأنه قد أغلف تماماً حقوقهم السياسية. والوعد البريطاني لليهود كان لا يمكن أن يتفق مع وعدهم الأسبق للشريف حسن شريف مكة بدعم إقامة مملكة عربية مستقلة بعد انتهاء الحرب مقابل ثورة العرب على الإمبراطورية العثمانية أو اتفاقيات سايكس – بيكو السرية في عام 1916 لتقسيم الشرق الأوس إلى دوائر نفوذ بريطانية وفرنسية في حالة انتصار الحلفاء. هذه الوعود المتضاربة في وقت الحرب قد أطلت برأسها مرة أخرى لتقض مضجع بريطانيا غداة انتصار الحلفاء. ومع ذلك، على نحو يوازي مقدار اهتمام وايزمان، منح تصريح بلفور اليهود، على الرغم من جوانب الغموض والقصور الموجودة به، مفتاحاً ذهبياً لفتح أبواب فلسطين وتنصب أنفسهم سادة عليها.
وفي أعقاب الحرب، ظل موقف وايزمان من عرب فلسطين محكوماً بالحاجة إلى الدعم البريطاني لإقامة وطن يهودي قومي.
ومع رعاية بريطانيا لحركة عربية شاملة تحت قيادة شريف مكة أثناء الحرب، لم يكن لديها أي تعاطف مع الفكرة القائلة بأن عرب فلسطين يألفون كياناً سياسياً محدداً. وكانت سياستها تتلخص في جعل الأمراء الهاشميين، أبناء شريف مكة، حكاماً لدول عربية شبه مستقلة. وقد أصبح الأمير فيصل، قائد الثورة العربية ضد الأتراك، ملكاً على سوريا، ولكن بعد أن طرده الفرنسيون من دائرة النفوذ، أسند إليه البريطانيون عرش العراق. وقد تم تعيين شقيقه الأكبر عبد الله حاكماً لإمارة الأردن، التي أنشأتها بريطانيا عام 1921. وبذلك أصبح العراق والأردن دعامتين أساسيتين من دعائم الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط في أعقاب الحرب العالمية الأولى (أنظر الخريطة 1).
لم يتطلب الأمر كثيراً من الوقت لكي تكيف وايزمان مع الخريطة الجديدة للشرق الأوسط. وفور حصوله على الضوء الأخضر من البريطانيين، شرع في تجاهل مطالب عرب فلسطين وسعى إلى التوصل إلى اتفاق مع الحكام الهاشميين للدول العربية المجاورة: وكان هذا أساس اتفاقيته التي وقعها مع فيصل في 3 يناير 1919. وقد تم فيها اعتماد تصريح بلفور والإعراب عن "النوايا الحسنة والتفاهم" بين العرب واليهود لتحقيق طموحاتهم القومية على أرضهم في فلسطين. ومع ذلك فإن الاتفاقية لم يكتب لها الحياة، لأنها كانت ضد الرأي العام في العالم العربي. وسواء كان فيصل يمتلك السلطة أم لا لتوقيع اتفاق يؤثر على عرب فلسطين في المقام الأول، فقد أرغم من خلال رعاياه القوميين على إعلان أن فصل فلسطين عن سوريا غير مقبول وأن الطموحات الصهيونية لإنشاء دولة يهودية تتناقض مع الأفكار العربية.
وكانت النتيجة الأساسية لذلك الفاصل المسرحي وايزمان – فيصل، من وجهة نظر العرب، النظر إلى الصهيونية على أنها حليف للإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط وعلى أنها عقبة في طريق كفاحهم من أجل تقرير المصير.
وخلال الفترة من 1918 إلى 1920 ألقى الصهاينة بكل ثقلهم من أجل التوسع في تفسير تصريح بلفور إلى أقصى مدى ممكن. فقد سعوا نحو الاعتراف الدولي بحق اليهود في فلسطين وأعلنوا عن رغبتهم في أن يمتد الوطن القومي اليهودي لكي يشمل ضفتي نهر الأردن. وعندما سأل وايزمان في مؤتمر باريس للسلام ما الذي يعنيه بالوطن القومي اليهودي، أجاب إجابته الشهيرة "أن نجعل فلسطين يهودية تماماً مثلما تكون انجلترا انجليزية". ومع ذلك فقد كان حريصاً على عدم ذكر ما يشير إلى كلمة دولة، حتى لا يمنح أي دعم للاتهام القائل بأن الأقلية اليهودية تخطط لكي تكون لها السيادة على الأغلبية العربية وعلى الرغم من أن إنشاء دولة يهودية ذات غالبية يهودية كان هدفه النهائي والثابت، فإنه قد أمن بالعمل على نحو تدريجي ومتطور، وبلا صخب من أجل تحقيق هذا الهدف.
كانت سياسة وايزمان تجاه عرب فلسطين توصف عادة بأنها معتدلة، ولكنها كانت معتدلة في أسلوبها أكثر منها في جوهرها. وعلى الرغم من صبره وتعلقه ورغبته في الإنصات إلى العرب، فقد كان متشدداً في الدفاع عن المصالح اليهودية في فلسطين. لقد كان مستعداً لقبول العرب كشركاء في إدارة فلسطين من خلال مجلس منتخب يعتمد على التكافؤ بين المجتمعين، ولكنه لم يقبلهم كشركاء أكفاء في التفاوض حول مستقبل البلد. وفي رأيه أن هذا التفاوض يجب أن يتم فقط بين بريطانيا واليهود.
ولا يثير تدهور العلاقات – اليهودية – العربية بعد صدور تصريح بلفور الكثير من الدهشة. وافتراض وايزمان أن عرب فلسطين سوف يظلون سلبيين سياسياً وأن الصراع العربي – اليهودي يمكن أن يجد طريقه إلى الحل عبر المستويين الاجتماعي والاقتصادي قد ثبت خطأه في نهاية المطاف. فقد ظهرت حركة قومية فلسطينية أثناء الحرب وكان أحد أسباب ظهورها التحدي الصهيوني. وتحت قيادة الحاج أمين الحسيني، المفتي الأكبر للقدس، أصبحت الحركة القومية الفلسطينية ليست نشطة فقط ولكن أيضاً عدوانية في مناهضتها للصهيونية. وقد رفض المفتي مراراً وتكراراً كل مقترحات التسوية التي قدمها البريطانيون وحرض على القيام بأعمال الشغب وإثارة الاضطرابات ضد اليهود الأمر الذي أدى في النهاية إلى ثورة شاملة في الفترة من 1936 – 1939 ضد السلطات البريطانية ورعاياها اليهود.
وجد وايزمان أيضاً أنه قد جانبه الصواب فيما يتعلق بافتراضه الخاص بالارتباط القومي بين المصالح البريطانية واليهودية في فلسطين. وقد أدى تصاعد المقاومة العربية، مع اندلاع أعمال العنف من وقت إلى آخر، إلى إجبار بريطانيا على إعادة تقييم التزاماتهم نحو الصهيونية التي قطعتها على نفسها في وقت الحرب. وكانت نتيجة ذلك تملصاً تدريجياً من وعدها المتمثل في إعلان بلفور وانتهاج سياسة أكثر توازناً تجاه الطرفين المتشاحنين على أرض فلسطين. وقد قصر البيان الحكومي "الكتاب الأبيض" الذي أصدره ونستون تشرشل عام 1922 الدعم البريطاني للوطن القومي اليهودي على ثلاث وسائل حيث وضع للمرة الأولى معايير اقتصادية للهجرة اليهودية، واقترح إنشاء مؤسسات منتخبة تعتمد على المثيل حسب عدد السكان، واستبعد الأردن من المساحة المتاحة للاستيطان اليهودي. وقد استمر هذا التحول المعاكس في السياسة البريطانية طوال فترة الحرب حتى وصل إلى الذروة في البيان الحكومي لعام 1939.
كانت خيبة أمل وايزمان في البريطانيين مريرة مثل أي زعيم صهيوني آخر. ومع ذلك فقد كان رده حقيقاً وعملياً. فبسبب أنه قد عقد كل آماله على العلاقة ببريطانيا، أدرك أنه ليس هناك بديل الآن للاعتماد على سلطة الانتداب إذا أراد للوطن القومي اليهودي الحياة. وهذا هو سبب رفضه كشف أوراقه كاملة أمام بريطانيا، فليست هناك طريقة يمكن بها للصهاينة أن يفرضوا تفسيرهم الخاص لتصريح بلفور على بريطانيا. وكانت نصيحته الاستمرار في بناء الوطن القومي اليهودي خطوة بعد خطوة ومهاجر بعد مهاجر ومستوطن بعد آخر.
لم تحظ هذه النصيحة بموافقة جماعية من المعسكر اليهودي. وفي أوائل العشرينيات، وسط جو من تنامي القوى العسكرية العربية ومحاولات بريطانيا تهدئة العرب، تصاعدت الأصوات مطالبة بتعديل السياسة الرسمية للحركة الصهيونية. وكان صوت زائيف فلاديمير جابوتنسكي أقوى هذه الأصوات.
كان زائيف جابوتنسكي (1880-1940) يهودياً قومياً متقد الحماس وهو مؤسس الصهيونية الجديدة والأب الروحي للحق الإسرائيلي. وقد ولد في أوديسا لعائلة يهودية روسية ليبرالية، وعمل كصحفي في روما وفينا وبدأ في مرحلة مبكرة تكريس مهاراته المميزة ككاتب وخطيب ومناظر لا يشق له غبار لخدمة القضية الصهيونية. وأثناء الحرب العالمية الأولى أقنع البريطانيين بتكوين وحدات من المتطوعين اليهود داخل الجيش البريطاني وخد هم نفسه كضابط في فريق المشاة الصهيوني في مصر.
وفي عام 1921 تم انتخاب جابوتنسكي للمجلس التنفيذي الصهيوني. ومنذ بداياته الأولى كان على خلاف عميق مع حاييم وايزمان، زميله اللدود الذي استمر معه طوال حياته. وفي عام 1923 استقال من المجلس التنفيذي الصهيوني متهماً سياساته وخاصة قبوله لبيان 1922، بأنها سوف تؤدي إلى ضياع فلسطين. وفي المؤتمرات الصهيونية المتوالية أثبت جابوتنسكي أنه أحد الخطباء العظماء وأصبح المتحدث بلسان المعارضة. وقد أنشأ حزباً جديداً، وهو الاتحاد الدولي لمجددي الصهيونية (الصهاينة الجدد) في عام 1925، وحركة الشباب. وبعد عقد من معارضة القيادة الرسمية للصهيونية، قام هو ومجموعته بالانسحاب من الحركة برمتها وأسس المنظمة الصهيونية الجديدة، التي انتخبته كرئيس لها. وقد عارض جابوتنسكي تقسيم فلسطين.
ودفعه تصاعد العمليات العسكرية إلى تولي قيادة المنظمة العسكرية المنشقة "أرجون". وقد توفى في أمريكا عام 1940 أثناء إحدى المهام لتنظيم المشاركة اليهودية في المجهود الحربي للحلفاء. وكان جابوتنسكي موهوباً بدرجة غير عادية كما كان متعدد المهارات، ومفكر أصيل وصاحب أيديولوجية وزعيم سياسي محنك. وقد أحبه أتباعه إلى درجة العبادة بينما كرهه أعداؤه إلى درجة التحريم.
وعلى الرغم من أن الحركة ذات الاتجاه الجديد كانت سائدة بدرجة كبرية من خلال جابوتنسكي وأفكاره، فإنها لم تكن تعتمد على الفردية. ولقد حصلت على تأييد راسخ الجذور في العشرينيات أثناء فترة الأزمة في تاريخ الصهيونية. وقد أحيا تصريح بلفور الأمل في أن الصهيونية سوف تتحقق على جناح السرعة بمساعدة بريطانيا العظمى، ولكن سياسة بريطانيا بعد الحرب قد خلفت مناخاً يخيم عليه الإحباط وخيبة الأمل. وقد استغل جابوتنسكي هذا المناخ لبناء حركته وترسيخ أيديولوجية الصهيونية الجديدة.
كانت إحدى المفارقات الخاصة بهذه المرحلة في التاريخ الصهيوني تنحصر في عدم وجود أي فرق جوهري بين جابوتنسكي ووايزمان من حيث دور بريطانيا العظمى. فكلا الرجلين، مع اختلاف الوسائل، كان من أتباع ثيودور هرتزل المخلصين حيث افترض كلاهما أن دعم وحماية إحدى القوى العظمى أمر محتم في الصراع من أجل بناء الدولة. وقد نبع توجه جابوتنسكي القوى الموالي للغرب من وجهة نظره العالمية المحددة. فقد رفض النظرة الرومانسية للشرق وآمن بالتفوق الثقافي للحضارة الغربية. وقد أعلن ذات مرة "إننا نحن اليهود ليس لدينا شيء مشترك مع ما يسمى (الشرق) ونحن نشكر الله على ذلك" فالشرق، من وجهة نظره، يمثل السلبية السيكولوجية والركود الاجتماعي والثقافي والاستبداد السياسي. وعلى الرغم من أصل اليهود يعود إلى الشرق، فإنهم ينتمون إلى الغرب ثقافياً ومعنوياً وروحياً. وكانت الصهيونية كما تصورها جابوتنسكي ليست عودة اليهود إلى موطنهم الروحي ولكنها بمثابة غرس أو زرع الحضارة الغربية في الشرق. وهذه النظرة العالمية ترجمت إلى تصور جغرافي استراتيجي تتحالف فيه الصهيونية بشكل دائم مع الاستعمار الأوروبي ضد كل العرب في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وقد تجلى السبب الجوهري لاختلاف جابوتنسكي مع القيادة الصهيونية الرسمية في تصوره للدولة اليهودية. فقد وضع قاعدتين أساسيتين شكلتا أيديولوجية الصهيونية الجديدة وبرنامجها السياسي. القاعدة الأولى تتمثل في تكامل أرض إسرائيل، على ضفتي نهر الأردن داخل الحدود الأصلية لانتداب فلسطين. أما القاعدة الثانية فهي الإعلان الفوري عن الحق اليهودي في السيادة على المنظمة ككل.
وقد أثار التحديد الأقصى الصهيونية مرة أخرى تساؤلاً يقول: هل يشكل عرب فلسطين كياناً مميزاً، وإذا كان ذلك كذلك، ما الذي يجب أن يكون عليه الموقف الصهيوني نحوهم وما الذي يجب أن يكون عليه موقفهم تجاه الدولة اليهودية المزعومة؟. تأتي إجابة جابوتنسكي في مقالين غاية في الأهمية تم نشرهما عام 1923 بعنوان "الحائط الحديدي". فقد قدما جوهر النظرية الجديدة فما يختص بالمشكلة العربية وأعلنا عن شعارها المحارب.
المقال الأول عنوانه "خلف الحائط الحديدي (نحن والعرب)". وهو يبدأ بملاحظة شخصية يصف فيها جابوتنسكي موقفه المعنوي من العرب على أنه غير متحيز. وذهب إلى رفض أي فكر خاص باستئصال العرب من فلسطين، باعتباره مرفوضاً تماماً. وأضاف، منتقلاً إلى منظور فلسفي، أن المشكلة الحقيقية هي ما إذا كان المرء يستطيع دائماً تحقيق الأهداف السلمية بوسائل سلمية أم لا.
وقد أصر على أن إجابة هذا السؤال تعتمد بلا شك على موقف العرب من الصهيونية وليس موقف الصهيونية منهم. وتحليل جابوتنسكي لموقف العرب قد قاده إلى ذكر أن "الاتفاق الاختياري بيننا وبين عرب فلسطين هو أمر لا يمكن تخيله الآن أو في المستقبل القريب". وكما اكتشف ذلك معظم الصهاينة المعتدلين، فإن الفرصة البالغة الضالة الخاصة بالتوصل إلى اتفاق مع عرب فلسطين لن تؤدي إلى تحويل فلسطين إلى بلد ذي أغلبية يهودية. وهذا لأنهم يعتبرون بلدهم هو وطنهم القومي ويريدون أن يظلوا هم ملاكه المنفردين. وقد انقلب جابوتنسكي بشكل حاد على أولئك الصهاينة الذي صوروا عرب فلسطين إما على أنهم حمقى يمكن خداعهم بسهولة من خلال تقديم رواية ساذجة عن الأهداف الصهيونية أو تصويرهم على أنهم جماعة من المرتزقة على استعداد للتنازل عن حقهم في وطنهم مقابل المكاسب الاقتصادية. وقد كتب يقول "إن أي شعب فطري سوف يقاوم المستوطنين الغرباء طالما لاحت له أي بارقة أمل في التخلص من خطر الاستيطان الأجنبي. هكذا سوف يتصرف العرب وسوف يظلون يتصرفون كذلك طالما بقي لديهم بارقة أمل في أنهم يستطيعون منع (فلسطين) من أن تصبح أرض إسرائيل".
وبعد أن أوضح جابوتنسكي منطق العداء الفلسطيني للصهيونية انتقل إلى مضامين السياسة. وأفاد بأن أحد الخيارات يتمثل في منح العرب غير الفلسطينيين المال أو التحالف السياسي مقابل موافقتهم على السيطرة اليهودية على فلسطين. وقد رفض هذا الخيار لسببين. الأول: أنه لا فائدة من تغيير العداء الدفين لعرب فلسطين نحو الاستعمار اليهودي. والثاني: أن تقديم المال اليهودي والدعم السياسي لعرب الشرق الأوسط قد يعد خيانة للقوى الاستعمارية الأوروبية، وخاصة بريطانيا، وهذا يعد عملاً انتحارياً. وعلى ذلك يصل جابوتنسكي إلى استنتاج يقول:
إننا لا نستطيع أن نعد بتقديم أي مكافأة لعرب فلسطين ولا للعرب خارج فلسطين. والتوصل إلى اتفاق اختياري أمر مستبعد. وعلى أولئك الذين يعلقون الآمال على التوصل لاتفاق مع العرب باعتباره شرطاً لازماً للصهيونية أن يعترفوا لأنفسهم اليوم بأن هذا الشرط لا يمكن أن يتحقق مما يعني أننا يجب أن نكف عن السعي نحو تحقيق الصهيونية ويجب علينا إما أن نجمد جهود الاستيطان أو نستمر فيها بدون أن نلقي بالاً إلى رد فعل السكان الأصليين.
وعلى ذلك فالاستيطان يمكن أن يتنامى تحت حماية قوة ما لا تعتمد على السكان المحليين، خلف حائط حديدي لا يستطيعون اختراقه.
كانت هذه، بإيجاز، سياسة جابوتنسكي تجاه المشكلة العربية: إقامة حائط حديدي من القوة العسكرية اليهودية. وهذه الحاجة لبناء الحائط الحديدي، كما زعم، وجدت موافقة شاملة من كل الصهاينة.
الفرق الطفيف الوحيد كان يتمثل في أن "العسكريين" قد أرادوا أن يكون الحائط من الحراب اليهودية، بينما أراد "المدنيون" بناء الحائط من الحراب البريطانية. ولكنهم أرادوا جميعاً حائطاً حديدياً. إن التكرار المستمر للرغبة الصهيونية في التفاوض مع العرب لم يكن فقط نوعاً من أنواع الرياء الكاذب ولكنه كان ضاراً أيضاً واعتبر جابوتنسكي أن مهمته المقدسة هي كشف هذا الرياء. وعند الاقتراب من نهاية المقال أسهب جابوتنسكي بعض الشيء في تبديد أي انطباع من المحتمل تكونه من خلال تحليله بأنه ليس لديه أي أمل في التوصل إلى اتفاق مع عرب فلسطين حيث يقول:
"إنني لا أهدف إلى التأكيد على عدم وجود أي احتمال للتوصل إلى اتفاق مع عرب أرض إسرائيل. ولكن الاتفاق الاختياري فقط غير ممكن. فطالما يحتفظون ببارقة أمل في أنهم سوف ينجحون في طردنا، فلا يوجد شيء في هذا العالم سوف يثنيهم عن هذا الأمل، بالتحديد لأنهم ليسوا أفراداً متناثرين ولكنهم شعب يقطن هذه الأرض. والشعب الذي يقطن الأرض سوف يتخلى عن هذه القضايا المصيرية فقط عندما يفقد كل أمل في طرد المستوطنين الغرباء. عندئذ فقط تفقد الجماعات المتطرفة التي ترفع شعار "لا إلى الأبد" تأثيرها، وينتقل نفوذها إلى جماعات أكثر اعتدالاً. والذين سيقدمون مقترحات من أجل التسوية. ويبدءون مساومتنا على أمور عملية، مثل ضمانات عدم طردهم والمساواة في الحقوق المدنية والقومية".
وقد انتهى المقال باعتراف على رؤوس الأشهاد بأن التعايش السلمي بين العرب واليهود قد يكون ممكناً، ولكن فقط نتيجة بناء حائط منيع:
"إنني أمل وأومن بأننا سوف نقدم لهم حينئذ ضمانات ترضيهم وسوف يتعايش الشعبان في سلام مجيران وطيبين. ولكن الطريق الوحيد لهذا الاتفاق يمر بالحائط الحديدي، بمعنى أن يتم بناء قوة في فلسطين لا تتأثر بضغط العرب. بمعنى آخر، أن الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار في المستقبل يتمثل في تجنب كل محاولات التوصل لتسوية في الوقت الراهن". وقد انتقد الصهاينة المعتدلون المقال، خاصة أنه قد كتب عبر منظور غير أخلاقي. وعلى ذلك فقد كتب جابوتنسكي مقالاً ثانياً بعنوان "مدى أخلاقية الحائط الحديدي"، قلب فيه المائدة على منتقديه. فقد كان يؤمن، من المنظور الأخلاقي، بأن هناك احتمالين: إما أن تكون الصهيونية ظاهرة إيجابية، أو أن تكون ظاهرة سلبية. هذا السؤال يحتاج إلى إجابة قبل أن يصبح المرء صهيونياً. وجميعهم قد توصلوا إلى أن الصهيونية قوة فيجابية، حركة أخلاقية يقف العدل إلى جانبها. والآن "إذا كانت القضية عادلة، فالعدل يجب أن ينتصر، دون النظر إلى موافقة أو عدم موافقة أي شخص آخر.
كانت إحدى الحجج الذائعة الانتشار ضد الصهيونية تتمثل في أنها تنتهك الحق الديمقراطي للأغلبية العربية في تقرير مصيرها القومي على أرض فلسطين. وقد رد جابوتنسكي بأن اليهود لديهم حق معنوي في العودة إلى فلسطين والعالم المستنير يعرف جيداً هذا الحق. وعلى ذلك فقد عاد إلى القول بأن وسيلة الحائط الحديدي غير أخلاقية لأنها تحاول توطين اليهود في فلسطين بدون موافقة سكانها.
وأشار إلى أنه بما أنه ليس هناك أي سكان أصليين في أي مكان في العالم يمكن أن يقبلوا بأغلبية أجنبية، فإن النتيجة المنطقية سوف تكون التراجع التام عن فكرة الوطن القومي اليهودي. وحينئذ فإن حتى مجرد الحلم بوطن قومي قد يصبح لا أخلاقي. وانتهى المقال بالتأكيد على مدى أخلاقية الحائط الحديدي: "إن الحقيقة المقدسة، التي يحتاج تحقيقها إلى استخدام القوة، لا تتوقف عن كونها حقيقة مقدسة. هذا هو أساس موقفنا تجاه المقاومة العربية، ويجب علينا الحديث عن التسوية فقط عندما نكون متأهبين لمناقشتها".
وعلى الرغم من أن مقال "خلف الحائط الحديدي" قد أصبح دستوراً للصهيونية الجديدة، فإن رسالته الحقيقية قد أسئ فهمها في الغالب، ليس فقط من خلال أتباع جابوتنسكي. فالحائط الحديدي بالنسبة له لم يكن غاية في حد ذاته ولكنه وسيلة لتحطيم مقاومة العرب لمسيرة الصهيونية. وبمجرد تحطيم المقاومة العربية، يمكن أن تحدث عملية تغيير داخل الحركة القومية الفلسطينية، مع وصول المعتدلين إلى الطليعة. وعندئذ فقط قد يحين الوقت للبدء في التفاوض الجاد. وفي هذه المفاوضات يجب على الجانب اليهودي أن يقدم للفلسطينيين حقوقاً مدنية وقومية. ولم يقدم جابوتنسكي في هذا المقال تفسيراً لما كان يعنيه بالحديث عن "حقوق قومية"، ولكن هناك آراء أخرى تقترح أن ما يقصده هو الاستقلال السياسي للفلسطينيين داخل الدولة اليهودية. ويتضح من هذا المقال أنه قد أدرك أن العرب الفلسطينيين يشكلون كياناً قومياً مستقلاً وأنه يرى أن لهم بعض الحقوق القومية، على الرغم من أنها محدودة، وأنها ليست مجرد حقوق فردية.
ومن حيث عالم الفكر، كان جابوتنسكي له أهميته بصفته مؤسس الصهيونية الجديدة. ومن حيث عالم السياسة كان تأثيره أكبر كثيراً مما تم تصوره. إن أنصار الصهيونية الجديدة ليسوا هم فقط الذين تأثروا بأفكاره ولكن الحركة الصهيونية ككل. ومقال "خلف الحائط الحديدي" وحسب تعبير أحد المراقبين المتمتعين بالبصيرة، يجب أن يعالج على أنه جهد نشيط وأمين من أجل التصدي لأخطر المشاكل التي تواجه الحركة الصهيونية وتنظير منهجي لما أصبح، في الواقع، منطقياً سائداً في السياسة الصهيونية والإسرائيلية المواقف نحو عرب فلسطين من العشرينيات وحتى الثمانينيات.
لم تكن الحركة الصهيونية حركة سياسية متناغمة ولكنها كانت تجمع بين أحزاب سياسية متنافسة، وكان أكبرها حزب العمل، الذي اعتمد في نشأته على الأفكار الماركسية والمبادئ الاشتراكية. إن أحد الفروق الجوهرية بين صهيونية حزب العمل والصهيونية الجديدة يتعلق باستخدام القوة. فقد كان صهاينة العمل معارضين للاعتراف بأن القوة العسكرية يمكن أن تكون ضرورية من أجل أن تحقق الحرية الصهيونية أهدافها، وقد قطن جابوتنسكي إلى تلك الحقيقة على نحو واضح ومحدد. وقد مضى إلى أبعد من ذلك من خلال اقتراح عكس قائمة الأولويات الصهيونية. وقد رغب صهاينة حزب العمل في المضي قدماً نحو بناء الدولة من خلال الهجرة والاستيطان وتخصيص أولوية أقل لبناء القدرة العسكرية. ولكن جابوتنسكي لم يتخل أبداً عن قناعته العسكرية اليهودية في العامل الجوهري في الصراع من أجل بناء الدولة. وقد توصل صهاينة حزب العمل إلى وجهة النظر هذه تدريجياً دون الاعتراف بها صراحة.
وعلى ذلك فإن التحليل النهائي يقول بأن الفجوة لم تكن واسعة بالقدر الذي تبدو عليه، حيث إن قادة حزب العمل، أيضاً، قد وصلوا إلى مرحلة الاعتماد بشكل متزايد على إستراتيجية الحائط الحديدي.
يتجلى تحول صهيونية حزب العمل نحو منطق وإستراتيجية الحائد الحديدي في أوضح صورة من خلال مسرة دافيد بن جوريون (1886-1973)، منشأ القوة العسكرية اليهودية ومؤسس دولة إسرائيل. ولد دافيد بن جوريون في بلونسك ببلولندا، حيث قام في مرحلة مبكرة من عمره بالالتزام العميق بالاشتراكية والصهيونية وفي عام 1906 سافر إلى فلسطين للعمل كعامل زراعي. وقد كان في البداية عضواً نشطاً في الحزب الاشتراكي الصهيوني، الذي اتحد مع جماعات أخرى لتكوين حزب أحدوت هافوداح Ahduth Ha'avodah في عام 1919 واندمج مع هابوئيل حتسائير Hapel Hatza'ir عام 1930 لتكوين الماباي، حزب العمل الإسرائيلي. وسرعان ما تقلد مناصب ذات منزلة رفيعة في حركة اتحاد العمال وحزب العمل والحركة الصهيونية. وقد عمل منذ 1921 حتى 1935 سكرتيراً عاماً للهستدروت، الاتحاد العام للعمال في فلسطين. وفي عام 1935، تم انتخابه رئيساً للمجلس التنفيذي للوكالة اليهودية ظل في هذا المنصب حتى إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948. ومنذ عام 1948 وحتى تقاعده عام 1963، باستثناء فترة قصيرة، عمل رئيساً لوزراء إسرائيل ووزيراً للدفاع.
وطوال حياته السياسية الطويلة كان بن جورين منغمساً بشكل عميق ومستمر في المشكلة العربية. وكان دائم الحديث عن هذا الموضوع، كما قام بنشر عدد لا يحصى من الكتب والمقالات. ومع ذلك فإن الخوض في غمار هذه المواد مسألة لا جدوى منها لأن هناك هوة واسعة تفصل بين تصريحاته العامة من المشكلة العربية وقناعاته الخاصة بسبب أنه كان قبل كل شيء سياسياً براجماتياً. وقد مالت تصريحات بن جوريون العامة في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات إلى التأكيد على المعارضة الرسمية لحركة العمال، التي كانت تؤمن بأن عرب فلسطين لا يشكلون كياناً قومياً منفصلاً ولكنهم جزء من الأمة العربية وعلاوة على ذلك ليس هناك تعارض جوهري بين مصالح عرب فلسطين ومصالح الصهاينة. فصراع الصهيونية، حسب التفسير الشيوعي، هو مجرد صراع طبقي مع ملاك الأراضي العرب والأفندية، وهذا الصراع يمكن أن يحل إذا أدرك الفلاحون العرب أن مصالحهم الحقيقية مع مصالح الطبقة العاملة اليهودية.
وبشكل شخصي لم يكن بن جوريون يؤمن بذلك التحليل الطبقي أو بنبوءته المتفائلة. وقد تخير منهجه تجاه المشكلة العربية بواقعية مفرطة. وقد أدرك باعتباره عاملاً زراعياً مدى حدة المشكلة. وقد ازدادت مخاوفه وهواجسه عندما أدرك أن المعارضة العربية كانت راسخة الجذور وأنها تصاعدت حتى وصلت إلى مرتبة الرفض المطلق للمشروع الصهيوني برمته. وعلى ذلك، في مرحلة مبكرة جداً من نشاطه السياسي، توصل بن جوريون إلى قناعة بأن الصراع بين الصهيونية والعرب لا مفر منه وأنه يمثل تحدياً هائلاً.
وقد أدى تقدير بن جوريون لقوة المعارضة العربية إلى سعيه إلى تأييد إحدى القوى الخارجية العظمى من أجل تعويض ضعف الحركة الصهيونية. وكان توجهه إلى إحدى القوى العظمى أمراً عملياً أكثر منه أيديولوجياً. ومن خلال سعيه الدءوب قام بتأييد التوجه العثماني والبريطاني والأمريكي. وكان يحكم التغير في التوجه صعوداً أو هبوطاً من خلال تأثير هذه القوى العظمى. فعندما حلت بريطانيا محل الإمبراطورية العثمانية كقوة مهيمنة في فلسطين، تتبع خطى حاييم وايزمان في الدفاع عن التحالف مع بريطانيا. والواقع أن التحالف مع بريطانيا، بالنسبة لدافيد بن جوريون، كان يعتبر شرطاً لازماً لنجاح الصهيونية. فقد اعتبر التعاون مع بريطانيا أكثر أهمية من التعاون مع العرب. والكثير من المقترحات التي قدمها للعرب لم تكن نابعة من قناعة حقيقية ولكن كان الهدف منها إرضاء البريطانيين. وقد رغب البريطانيون في تفاهم يهودي – عربي، ولذلك أراد بن جوريون أن يظهر بمظهر الساعي نحو هذه الغاية حتى لو بدا أن مقترحاته ليست أمامها أي فرصة للموافقة عليها من جانب العرب. وقيام تحالف ضد الإمبريالية مع العرب كان أمراً مستبعداً تماماً بالنسبة لقناعاته، على الرغم من أن الأيديولوجية الاشتراكية كانت تشير إلى ذلك الاتجاه.
ولقد صنعت الثورة العربية، التي اندلعت في إبريل 1936، نقطة تحول في تطور موقف بن جوريون من المشكلة العربية. فقد أعلن للمرة الأولى عن الطبيعة القومية للمعارضة العربية للصهيونية. وقد صرح للمجلس التنفيذي للوكالة اليهودية في 19 مايو 1936 بأن هناك صراعاً هائلاً: "فنحن وهم نريد نفس الشيء كلانا يريد فلسطين. وهذا هو الخلاف الجوهري بيننا".
ولأنه كان من الناحية الأيديولوجية أقل تزمتاً من رفاقه فقد كان يرغب في الاعتراف من الناحية السياسية بأنهم المعتدون، بينما العرب يدافعون عن أنفسهم. ولكن إدراكه لطبيعة الثورة العربية الراسخة الجذور جعله لا يميل إلى التفاوض والحلول الوسط. بل على النقيض، جعله ذلك يقتنع بأن الحرب فقط، وليست الدبلوماسية، هي التي ستحسم الصراع.
كان بن جوريون على قناعة تامة بوجوب التحقق الكامل للصهيونية بصرف النظر عن نطاق وعمق المعارضة العربية. وفي خطابه إلى المجلس التنفيذي للوكالة اليهودية في يونيو 1936، أصر على أن السلام مع العرب هو مجرد وسيلة للوصول إلى غاية: "إننا لا نريد الوصول إلى اتفاق من أجل إقرار السلام في هذا البلد. والواقع أن السلام أمر حيوي بالنسبة لنا. ومن المستحيل بناء بلد ما في حالة حرب دائمة، ولكن السلام بالنسبة لنا هو وسيلة وليس غاية. والغاية هي التحقيق الكامل والتام للصهيونية. ونحن لهذا السبب فقط نرغب في التوصل إلى اتفاق".
كان بن جوريون يؤمن بأن التوصل إلى اتفاق مع العرب من أجل تحقيق الهدف النهائي للصهيونية هو أمر ممكن، ولكن فقط على المدى الطويل:
"إن الاتفاق الشامل هو بلا شك أمر مستبد الآن. فقط بعد أن يدب اليأس الكامل في نفوس العرب، ذلك اليأس الذي سوف يأتي ليس فقط من فشل الاضطرابات ومحاولة التمرد، بل سوف يأتي أيضاً من تنامي قوتنا في هذا البلد، يمكن عندئذ أن يذعن العرب لوجود إسرائيل اليهودية". إن التشابه بين النتيجة التي توصل إليها بن جوريون وتلك التي توصل إليها زائيف جابوتنسكي في مقاله "خلف الحائط الحديدي" قبله بثلاثين عاماً هو أمر يثير الدهشة.
فقد اعتبر كلاهما عرب فلسطين حركة قومية في جوهرها ملتزمة بمقاومة المعتدي الصهيوني. وقد أدرك كلاهما أن أولئك العرب لن يسمحوا أبداً بقيام دولة يهودية وأن الدبلوماسية لن تكون قادرة على حل الصراع. وقد آمن كلاهما بأن العرب سوف يواصلون القتال طالما بقي لديهم أدنى أمل في منع اليهود من السيطرة على بلدهم. وقد توصل كلاهما إلى أن القوى العسكرية اليهودية فقط هي القادرة على جعل اليأس يدب في ونفوس العرب والقبول بدولة يهودية في فلسطين. ولم يستخدم بن جوريون مصطلح الحائط الحديدي، ولكن تحليله واستنتاجاته كانت متطابقة تماماً مع تلك الخاصة بجابوتنسكي.
قامت الحكومة البريطانية بالرد على اندلاع الثورة العربية في فلسطين بتعيين لجنة ملكية، برئاسة اللورد بيل، وذلك من أجل التحقيق في أسباب الاضطرابات والتوصل إلى حل. وقد توصلت اللجنة إلى أن القومية اليهودية قومية متشددة متمردة حول نفسها مثلها مثل القومية العربية، وأن الهوة بينهما تزداد اتساعاً، وأن الحل الوحيد هو تقسيم البلد إلى دولتين منفصلتين. وفي تقريرها النهائي الصادر في يوليو 1937، اقترحت اللجنة إنشاء دولة يهودية صغيرة جداً مساحتها 5000كم2، ودولة عربية كبيرة ومقاطعة تمتد من القدس إلى يافا في ظل انتداب بريطاني دائم (انظر الخريطة 2).
اعتبر بن جوريون خطة بيل للتقسيم بداية لنهاية الانتداب البريطاني في فلسطين وميلاد الدولة اليهودية كبرنامج سياسي واقعي. وقد انقسمت الحركة الصهيونية في رد فعلها تجاه خطة التقسيم، على الأقل بالنسبة لصغر حجم الدولة اليهودية والشكوك المحيط بصلاحيتها.
ولكن في المؤتمر الصهيوني العشرين، الذي عقد بمدينة زيورخ في أغسطس 1937، تم التوصل إلى قرار بقبول الخطة كقاعدة للتفاوض مع الحكومة البريطانية. وقد انطوى ذلك القرار بوضوح على مفهوم مغزاه أنه من الآن فصاعداً يكون لإنشاء الدولة اليهودية المستقلة الأسبقية على أي اتفاق يهودي عربي. وكان ذلك يتماشى مع القاعدة التي أرساها بن جوريون في العام السابق والتي تقول أنه بينما نواصل السعي نحو التوصيل إلى اتفاق مع العرب، لا يجب أن يعتمد تحقيق الصهيونية على ذلك.
كان قادة المعسكر المؤيد للتقسيم حاييم وايزمان ودافيد بن جوريون وموشي شيرتوك، رئيس الإدارة السياسية بالوكالة اليهودية، والذي كان عليه أن يغير اسمه بعد ذلك ليصبح شاريت والذي أصبح أول وزير خارجية لدولة إسرائي. وكانت الحجة الأساسية المؤيدة للتقسيم تتمثل في أن إقامة دولة يهودية مستقلة حتى ولو على جزء صغير من أرض فلسطين يعتبر أمراً أكثر فائدة على طريق تحقيق الصهيونية من أي بديل آخر. وكان وايزمان يؤمن بأن اليهود سوف يكونون أغبياء إذ لم يقبلوا خطة بيل للتقسيم حتى ولو كانت الدولة اليهودية المقترحة في حجم مفرش المائدة. ولكن بينما قبل وايزمان بالتقسيم كجزء من التوجه المستمر المؤيد لبريطانيا، فقد بن جوريون إيمانه ببريطانيا وأعلن عن تقديره لخطة بيل من أجل الفرصة التي تقدمها لبناء قوة مستقلة للمجتمع اليهودي في فلسطين.
لكن رغم أن بن جوريون وافق على التقسيم، فإنه لم ينظر أبداً إلى الحدود التي رسمتها خطة لجنة بيل على أنها حدود دائمة.
إن طبيعة ومدى النزعة التوسعية لدى بن جورين كشف عنها النقاب وبدت سافرة في خطاب بعث به إلى ابنه آموس من لندن في 5 أكتوبر 1937. وفي هذا الخطاب أماط بن جوريون اللثام عن شدة حماسه لإقامة الدولة اليهودية، حتى لو تضمن ذلك تقسيم فلسطين، وذلك لأنه كان يعمل على أساس أن هذه الدولة لن تكون النهاية ولكنها مجرد بداية. فهذه الدولة سوف تمكن اليهود من الهجرة بلا حدود، وبناء الاقتصادي اليهودي، وبناء جيش من الطراز الأول. وكتب يقول "إنني على يقين، أننا سوف نكون قادرين على الاستيطان في كل أنحاء البلد، سواء عن طريق الاتفاق والتفاهم المتبادل مع جيراننا العرب أو بأية وسيلة أخرى".
إن كلاً من عقل وقلب بن جوريون قد قالا له "أقم الدولة اليهودية في الحال، حتى لو لم تكن على كل الأرض، فالبقية سوف تأتي مع الوقت، لابد أن تأتي".
أيدت الغالبية العظمى من الصهاينة بن جوريون في قبول التقسيم وبناء الدولة اليهودية. وفي المؤتمر الصهيوني العشرين، الذي عقد بمدينة زيورخ، تمت مناقشة كل الذرائع المؤيدة والمعارضة للتقسيم. كانت أول مناقشة واسعة النطاق للتقسيم وأيضاً أكثر المناقشات خطورة وحدة في تاريخ الصهيونية. حيث عرض كل من المعسكرين قضيته بقدر عظيم من الحماس والاقتناع. وقام المحللون بتناول ثلاث قضايا وهي:
عدم التفريط في أرض الميعاد وما جاء في التوراة، وأن الدولة اليهودية ليست مؤهلة حتى الآن للوقوف على قدميها، وأن بريطانيا يجب أن تلتزم بتعهداتها في ظل تصريح بلفور والانتداب.
وصوت 299 مندوباً لصالح اقتراح بن جوريون وصوت 160 مندوباً ضده وامتنع 6 مندوبين عن التصويت. وانتهى بإصدار القرار الاستراتيجي الخاص بتأييد التقسيم وإقامة دولة يهودية على جزء من أرض فلسطين. وفي نهاية المؤتمر، تقدم بن جوريون لإعادة الترشيح كرئيس للمجلس التنفيذي للوكالة اليهودية وذلك بهدف العمل على إقامة الدولة اليهودية. وكان عليه أن يكرس العشرة أعوام التالية من حياته لتنفيذ هذا الهدف الأوحد.
كان الصراع من أجل إقامة الدولة مصحوباً بالكثير من الخلافات، ولكنها كانت خلافات حول الوسائل وليست حول الهدف الطويل الأمد. والتزام بن جوريون الخاص بإقامة الدولة لم يتزحزح أمام المعارضة العربية أو المراوغات البريطانية. وعلى الرغم من أنها كانت صاحبة المبادرة في مشروع التقسيم عام 1937، فإن الحكومة البريطانية بدأت التراجع عنه مع اقتراب الحرب العالمية الثانية، كان الحصول على دعم الدول العربية والعالم الإسلامي بشكل عام أكثر أهمية لبريطانيا في صراعها مع دول المحور من دعم اليهود. فعلى حين غرة احتوى البيان الرسمي الصادر في 17 مايو 1939 ما يخالف تماماً التأييد البريطاني للصهيونية وللدولة اليهودية. بحكمه على اليهود بأن يظلوا أقلية في دولة فلسطينية مستقلة. ولذلك كان في على الحركة الصهيونية أن تسارع إلى بناء قوتها العسكرية الخاصة، من خلال المنظمة العسكرية المسماة اللهاجاناه "Haganah وهي كلمة عبرية تعني الدفاع" وذلك من أجل التصدي للمقاومة العربية.
ولأن هذا التنظيم قد اعتنق نهجاً دفاعياً احتفظ له بصورة جيدة أمام الرأي العام، فإنه تبنى سياسة قائمة على استخدام القوة من أجل مواجهة استخدام القوة والتهديد باستخدامها من جانب خصومه العرب. والروح العدوانية التي كانت مغلفة دائماً بالروح الدفاعية أصبحت أكثر تجلياً فور اندلاع الثورة العربية.
في نفس الوقت صعد اليهود من مقاومتهم النشطة لسياسة الكتاب الأبيض (البريطاني) الذي قيد شراء اليهود للأرض والهجرة اليهودية إلى فلسطين. وأدى قيام الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 إلى وضع اليهود في ورطة قاسية، فهم كانوا يقفون خلف بريطانيا في كفاحها ضد ألمانيا النازية ولكنهم كانوا يقفون أيضاً ضدها في الكفاح من أجل فلسطين.
ومع ذلك تم العثور على وسيلة للخروج من الورطة يمكن إيجازها ببلاغة في شعار بن جوريون القائل: "سوف نقاتل مع البريطانيين ضد هتلر كما لو لم يكن هناك كتاب أبيض، وسوف نقاتل الكتاب الأبيض كما لو لم تكن هناك حرب".
وخلال الحرب العالمية الثانية أصبح بن جوريون أكثر تأكيداً على الحق اليهودي في السيادة السياسية، بينما ينكر هذا الحق على الأغلبية العربية في فلسطين. والحل الذي قدمه للمشكلة السكانية اليهودية تضمن هجرة اثنين أو ثلاثة ملايين يهودي إلى فلسطين فور انتهاء الحرب. وزعم أن المشكلة العربية تتضاءل مقارنة بالمشكلة اليهودية لأن العرب لديهم مساحات شاسعة من الأرض خارج فلسطين، بينما اليهود، الذين كانوا مضطهدين في أوروبا، فتمثل فلسطين لهم الجنة الوحيدة.
ولذلك أصبح ينظر إلى المشكلة العربية على أنها مجرد حالة أقلية عربية داخل دولة ذات أغلبية يهودية واسعة. وقد تم التعبير عن المفهوم الجديد للدولة اليهودية على كل فلسطين من خلال ما أطلق عليه برنامج بيلتمور. ففي اجتماع غير عادي للصهاينة الأمريكيين، حضره كل من وايزمان وبن جوريون، بفندق بيلتمور بنيويورك في مايو 1942، تم تبني قرار ينادي باعتبار "فلسطين كومنولث يهودي يمثل جزءاً لا يتجزأ من العالم الديمقراطي الجديد" بعد الحرب العالمية الثانية. بهذا القرار ولأول مرة تطالب الحركة الصهيونية على الملأ بكل فلسطين. والهدف الخاص بالتوصل إلى اتفاق يهودي – عربي لم يتم إغفاله، ولكنه أصبح الآن وبشكل واضح من المتوقع أن يلي من حيث الأولوية إنشاء الدولة اليهودية أو الكومنولث ولا يأتي قبلها.
وتم تبني برنامج بيلتمور قبل أن ينتشر رعب الحملة النازية لإبادة يهود أوروبا. وافترض الزعماء الصهاينة أنه بعد انتهاء الحرب سوف يكون هناك الملايين من اللاجئين اليهود في أوروبا يمكن أن تؤدي مشكلتهم إلى تقديم المزيد من الدعم لقضية إنشاء دولة يهودية واسعة في فلسطين. ولم يتوقع أحد منهم محارق الإبادة الجماعية، ذلك الحادث الأكثر مأساوية في التاريخ اليهودي، حيث أبيد نحو ستة ملايين يهودي. ومع ذلك، أصبحت مأساة يهود أوروبا في النهاية مصدراً لقوة الصهيونية.
فالقضية الأخلاقية المتمثلة في إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين والتي كانت مقبولة على نطاق واسع منذ البداية، أصبحت بعد محارق الإبادة الجماعية لا تقبل الجدل وقد وصف الشاعر روبرت فروست الوطن بأنه المكان الذي إذا ذهبت إليه فإنهم يجب أن يسمحوا لك بالدخول. وأنكر القليل على اليهود حقهم في أن يكون لهم وطن بعد المأساة التي تعرضوا لها في وسط أوروبا.
وخرج من أتون الحرب العالمية الثانية نوع من الصهيونية أشد صلابة، وأصبح الإصرار على إقامة الدولة اليهودية أكثر عمقاً وأكثر إلحاحاً في ظل محارق الإبادة الجماعية. فمن ناحية، زادت الهولوكست من اقتناع الصهاينة بأن الحق في جانبهم في صراعهم في فلسطين، ومن ناحية أخرى، جذبت أنظار الرأي العام العالمي إلى فكرة الدولة اليهودية المستقلة.
وقد قام بن جوريون بتجسيد مفهوم "الصهيونية المقاتلة" التي بعثت من بين أنقاض الحرب العالمية الثانية، وانتزع الزعامة من بين يدي وايزمان، الذي كان لا يزال ملتصقاً "بالصهيونية الدبلوماسية" والتحالف مع بريطانيا. وأصر المؤتمر الصهيوني الذي عقد في أغسطس 1945 – على نحو يتناقض مع نصيحة وايزمان – على سياسة المعارضة النشطة للحكم البريطاني، وفي شهر أكتوبر بدأ التنفيذ العسكري. فصدرت الأوامر للهاجانه بالتعاون مع الجماعات المنشقة التي تكونت استجابة للصهيونية الجديدة وكانت الجماعة الأساسية تسمى المنظمة العسكرية القومية (أرجون) التي بدأت توجيه عملياتها ضد الإدارة البريطانية في فلسطين بعد نشر الكتاب الأبيض عام 1939. وفي وقت لاحق من ذلك العام، عندما أوقفت أرجون حملتها ضد البريطانيين، حدث الانشقاق. وانسحب الجناح الأكثر تشدداً بقيادة أفراهام شتيرن من أرجون لكن بشكل ما يعرف باسم (المقاتلون من أجل حرية إسرائيل)، أو Lehi ليحي تبعاً لأوائل الكلمات العبرية، أو عصابة شتيرن. كانت عصابة شتيرن شديدة العداء للبريطانيين لدرجة أنها سعت إلى الاتصال بقوات المحور من أجل طرد البريطانيين من فلسطين. وعلى الرغم من أن عدد أعضاءها لم يتجاوز ثلاثمائة عضو إلا أنها كانت شوكة في ظهر البريطانيين. وفيما بين نوفمبر 1945 ويوليو 1946 توحدت المنظمات السرية الثلاثة معاً لكي تشكل ما عرف باسم "حركة الثورة اليهودية".
وأجبرت الإجراءات العسكرية البريطانية الصارمة القادة الصهاينة على وقف نشاط الثورة اليهودية، وحاولوا بدلاً من ذلك دق إسفين بين بريطانيا والولايات المتحدة على الساحة الدبلوماسية. حيث كانت بريطانيا تسعى إلى الحصول على التأييد الأمريكي لخطتها الخاصة بإنشاء ولايات يهودية وعربية تتمتع بالحكم الذاتي، وهي خطة رفضت تماماً من جانب الصهاينة. ومن أجل الحصول على التأييد الأمريكي قرر أعضاء المجلس التنفيذي للوكالة اليهودية في أغسطس 1946 الموافقة على إنشاء دولة يهودية على مساحة كافية من أرض فلسطين. وعبر هذا القرار عن التخلي عن برنامج بيلتمور والعودة إلى مبدأ التقسيم. ولم ينظر إلى هذا القرار على أنه بمثابة تقديم تنازل للعرب ولكن كوسيلة للحصول على الدعم الأمريكي لفكرة الدولة اليهودية. وفي فبراير 1947، قامت الحكومة البريطانية – بعد عجزها عن التوصل إلى حل يقبله الطرفان – بإحالة مشكلة فلسطين إلى الأمم المتحدة.
وفي 29 نوفمبر 1947 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها التاريخي رقم 181 لصالح تقسيم فلسطين. وفي مثال نادر للاتفاق أثناء الحرب الباردة، صوتت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لصالح القرار بينما امتنعت بريطانيا عن التصويت. وقد وضع القرار جدولاً زمنياً لإقامة دولة يهودية ودولة عربية يرتبطان معاً باتحاد اقتصادي، ونظام دولي لإدارة القدس. وتم وضع حدود طويلة ومتعرجة تفصل الدولة اليهودية عن الدولة العربية، مع وجود نقاط عبور لربط المناطق المعزولة في شرق الجليل والسهل الساحلي والنقب. وحدود هاتين الدولتين ذات الشكل الشاذ والتي تشبه ثعبانين يتقاتلان كانت عبارة عن كابوس استراتيجي (أنظر الخريطة 3). ولم يكن التركيب السكاني للدولة اليهودية المقترحة أقل غرابة أو أكثر قابلية للتطبيق حيث تتكون من 500 ألف يهودي و400 ألف عربي. وعلى الرغم من كل عيوبه وغرابته، فإن قرار الأمم المتحدة عبر عن انتصار كبير للدبلوماسية الصهيونية. وعلى الرغم من أن القرار لم يرق إلى مرتبة الطموح الصهيوني الهائل في دولة تشتمل على كل فلسطين والقدس، فإنه قدم وثيقة لا تقدر بمال تبرهن على الشرعية الدولية لإقامة دولة يهودية مستقلة. وقوبلت أنباء تصويت الأمم المتحدة بالهتاف والتهليل من جانب اليهود في كل مكان. ولكن أتباع جابوتنسكي في أرجون وعصابة شتيرن لم ينضموا إلى الاحتفالات العامة. وبعد مرور يوم من تصويت الأمم المتحدة أعلن مناحم بيجين قائد أرجون بيان مقاتلي الجماعات السرية: "إن تقسيم فلسطين غير شرعي ولن نقبل به أبداً .... والقدس كانت وستظل عاصمتنا إلى الأبد. وإسرائيل الكبرى سوف تعود إلى شعب إسرائيل. كل إسرائيل. وإلى الأبد".
وافقت الوكالة اليهودية رسمياً على مشروع الأمم المتحدة للتقسيم، ولكن معظم زعمائها قد فعلوا ذلك بقلب حزين. فهم لم يستحسنوا فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وكانوا يشعرون بالأسى لاستبعاد القدس، كما أنهم تشككوا في مدى إمكانية قيام دولة يهودية داخل الحدود التي رسمتها الأمم المتحدة. وعلى الرغم من ذلك، اعتبر قرار الأمم المتحدة كسباً هائلاً للتأييد الدولي لإقامة دولة يهودية بصرف النظر عن مدى إمكانية تطبيق ذلك.
وقام عرب فلسطين – الذين هم بخلاف اليهود ولم يحاولوا تهيئة أنفسهم لقبول إقامة الدولة – برفض قرار التقسيم قلباً وقالباً. وقد شجبت اللجنة العربية العليا الممثلة للعرب مشروع التقسيم ووصفته بأنه "مناف للعقل وغير عملي وغير عادل". كما أعلنت الدول العربية – المنتظمة في جامعة الدول العربية منذ عام 1945 – أيضاً أن مشروع الأمم المتحدة غير شرعي وهددت بمنعه باستخدام القوة. وفي الأول من ديسمبر عام 1947 أعلنت اللجنة العربية العليا الإضراب لمدة ثلاثة أيام والذي كان مصحوباً بهجمات عنيفة على المدنيين اليهود.
إن اقتراع الأمم المتحدة المؤيد للتقسيم لم يقدم فقط الشرعية الدولية لإنشاء دولتين إحداهما يهودية والأخرى عربية ولكنه أيضاً – على نحو غير متعمد – كانت إشارة البدء لاندلاع حرب طاحنة بين الطرفين في فلسطين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق