الثلاثاء، 15 سبتمبر 2009

الحائط الحديدي الفصل الأول

إنشاء دولة إسرائيل
1947 – 1949

ولدت دولة إسرائيل في غمرة الحرب مع عرب فلسطين والدول العربية المجاورة. تلك الحرب التي أطلق عليها الإسرائيليون حرب الاستقلال وأطلق عليها العرب النكبة أو الكارثة، كانت ذات مرحلتين. المرحلة الأولى استمرت من 29 نوفمبر 1947، حين أصدرت الأمم المتحدة قرار التقسيم، وحتى 14 مايو 1948 عندما تم إعلان دولة إسرائيل. وامتدت المرحلة الثانية من 15 مايو 1948 وحتى وقف القتال في 7 يناير 1949. المرحلة الأولى وغير الرسمية من الحرب التي كان طرفاها اليهود وعرب فلسطين قد انتهت بانتصار لليهود وبمأساة للفلسطينيين. أما المرحلة الثانية والرسمية والتي كانت تضم الجيوش النظامية للدول العربية المجاورة فقد انتهت أيضاً بانتصار يهودي وهزيمة عربية شاملة.
كانت الشخصية المحورية في الجانب الإسرائيلي أثناء الحرب العربية – الإسرائيلية ممثلة في دافيد بن جوريون. وبصفته رجل اليهود القوي، فإن بن جوريون جمع كل السلطات في يده بعزيمة لا تلين. وفي عام 1946 قدم مقترحاته الخاصة بالسيناريو الدفاعي في المجلس التنفيذي للوكالة اليهودية وبدأ على الفور تجهيز اليهود للمواجهة العسكرية مع العرب والتي كانت محتمة من وجهة نظره. وأعلن قبوله مشروع الأمم المتحدة للتقسيم ولكن لم يقبل الحدود على أنها نهائية للدولة اليهودية. وعلى الرغم من أنه أعلن تقديره للتأييد العالمي، وخاصة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لفكرة الدولة اليهودية إلا أنه لم يتوقع أن يتم تقديم الدولة اليهودية على طبق من فضة. بل كان على يقين أن اليهود في النهاية يجب أن يقاتلوا من أجل دولتهم، أرادا إحراز نصر عسكر يهودي حاسم. من أجل هذا أعلن مسئوليته عن توجيه الصراع العسكري وترك لموشيه شاريت – في نيويورك – مهمة القيام بالحملة الدبلوماسية من أجل الدولة اليهودية. وق تمتع بن جوريون أيضاً بالتأييد القوي من جولدا مائير (مايرسون سابقاً) أثناء الصراع من أجل الاستقلال.
وكانت مسز مائير قد ولدت في روسيا عام 1898 وأكملت تعليمها في ميلوكي كمدرسة، ثم هاجرت إلى فلسطين عام 1921، حيث برزت بين صفوف اتحادات العمال حتى تقلدت منصباً بارزاً في حزب العمل. وفي عام 1946 عندما تم القبض على موشي شاريت بواسطة البريطانيين، أصبحت مسز مائير رئيسة للقسم السياسي بالوكالة اليهودية. وفي الفترة 47-1948 أخذت على عاتقها مسئولية جمع التبرعات في الولايات المتحدة مفسحة الوقت لبن جوريون للتركيز على الجانب العسكري في الصراع.
إن قبول مشروع الأمم المتحدة تضمن الموافقة على الدولة الفلسطينية، ولكن الواقع أن الزعماء الصهاينة فضلوا السعي نحو التفاهم مع أحد حكام الدول العربية المجاورة. وبالفعل حققوا نجاحاً باهراً مع جارهم باتجاه الشرق الملك عبد الله ملك الأردن. هل كان لديهم أي بديل دبلوماسي؟ هل كان لديهم أي خيار فلسطيني في 47-1949؟ الإجابة عن هذا السؤال يجب أن تكون بالنفي، لأنه في ظل قيادة الحاج أمين الحسيني ظلت الحركة القومية الفلسطينية لا تقبل المهادنة في معارضتها للصهيونية في أواخر الأربعينيات كما كانت طوال الخمسة وعشرين عاماً السابقة عليها.
كان الصهاينة يبحثون عن زعيم عربي يمكن أن يقبل مبدأ التقسيم، ويوافق على قيام دولة يهودية، ويكون راغباً في التعايش في سلاك مع تلك الدولة بعد قيامها. وفي عام 1947 كان هناك حاكم عربي واحد تنطبق عليه الشروط هو الملك عبد الله. كانت هناك علاقات ودية بين الملك عبد الله والصهاينة منذ إقامة إمارة الأردن في عام 1921. قام عبد الله بعمل تقدير واقعي لتوازن القوى بين الحركة الصهيونية والحركة القومية العربية. ربما لم يكن يستوعب تماماً الأيدلوجية التي تحث اليهود على الكفاح بلا هوادة من أجل دولة مستقلة في فلسطين، ولكنه عرف مدى اهتمامهم بذلك عندما رآه رأي العين.
لقد وجد عبد الله والصهاينة في بعضهما البعض وسيلة لتحقيق غاية ما. فبالنسبة لعبد الله، مثل الصهاينة له مصدر دعم محتمل لتحقيق حلمه في سوريا الكبرى. أما بالنسبة للصهاينة، فإن عبد الله كان يمكن أن يقدم لهم وسيلة تحطيم حصار العداء العربي الذي يحيط بهم من كل جانب. كان عبد الله والصهاينة يتكلمون نفس اللغة – لغة الواقعية – ولكن من خلال سيناريوهات مختلفة. لقد قويت أواصر الصداقة الهاشمية – الصهيونية من خلال مصدر الحماية المشترك المتمثل في بريطانيا والعدو المشترك المتمثل في شخص الحاج أمين الحسيني مفتي القدس.
كانت القومية الفلسطينية تمثل تهديداً لكلا الجانبين، ولذلك فإنهما أصحاب مصلحة مشتركة في قمعها. ومع اقتراب الانتداب البريطاني من الوصول إلى نهايته المحتومة، وحد الجانبان جهودهما من أجل تنسيق إستراتيجيتها.
وفي 17 نوفمبر 1947، قبل اثنى عشر يوماً من اجتماع الأمم المتحدة لتقرير مصير فلسطين، التقت جولدا مائير – ممثلة الوكالة اليهودية في غياب شاريت – سراً مع الملك عبد الله في نهاريم على نهر الأردن، ووصلت معه إلى قدر كبير من التفاهم. وقد بدأ عبد الله بعرض خطته في أن يحل محل المفتي، ويضع يده على الجزء العربي من فلسطين، ويضمه إلى مملكته وطلب الرد اليهودي على خطته. وأجابت مسز مائير بأن اليهود سوف ينظرون بعين العطف إلى ذلك، وخاصة إذا لم يتدخل عبد الله في مسألة إقامة دولة يهودية، وتجنب المواجهة العسكرية، وتعاون مع الأمم المتحدة. ولم تمنح مائير عبد الله أي وعد بدعم يهودي فعال فيما يختص بعرضه ضم الجزء العربي من فلسطين إلى مملكته. بدلاً من ذلك، تم التفاهم على أنه يمكن أن يقوم بذلك بنفسه وأن يقيم اليهود دولتهم، وبعد أن ينقشع الغبار يمكن للطرفين تحقيق السلام. هذا الاجتماع لم يلزم أي طرف من الطرفين رسمياً بالقيام بتصرف معين، وبالتأكيد ليس قبل صدور قرار الأمم المتحدة. ولكنه أدى إلى التقاء الأفكار ووضع أسس لتقسيم فلسطين عبر خطوط مختلفة تماماً عن الخطوط التي تم تصورها في النهاية بواسطة الأمم المتحدة.
وسرعان ما تدهور الموقف في فلسطين بعد اقتراع الأمم المتحدة في 29 نوفمبر لصالح التقسيم، وبدأت حرب العصابات العربية ضد الأهداف اليهودية وكان بن جوريون على يقين بأن هذه الهجمات هي مجرد مقدمة لمواجهة عسكرية شاملة مع الجيوش النظامية للدول العربية المجاورة. وفي يومي 1 و2 يناير 1948 اجتمع مع كبار مستشاريه المدنيين والعسكريين، وساعدته هذه الاجتماعات على صياغة إستراتيجية يهودية لمواجهة الصراع المتصاعد. وقلل الخبراء العرب في الوكالة اليهودية من شأن الخطر العسكري الذي يمثله العرب المحليون وطالبوا بالمرونة السياسية في التعامل معهم.
أما قادة الهاجاناه، على الجانب الآخر، فقد طالبوا بالقيام بهجمات انتقامية شديدة الوطأة. وأيد بن جوريون هذا الرأي وأعلن إن أفضل بديل في الظروف الحالية ليس احتواء وتهدئة الأحداث ولكن تصعيد الصراع العسكري. وبالتالي، لجأت الهاجاناه إلى سياسية "الدفاع الهجومي" مصحوباً بالتدمير الاقتصادي والحرب النفسية. وكانت الخطة D المعدة بواسطة قادة الهاجاناه في أوائل مارس علامة بارزة على طريق تطوير الإستراتيجية الهجومية. وفي الشهر السابق قام الجنود الفلسطينيون غير النظاميين بقيادة عبد القادر الحسيني بقطع الطريق الرئيسي بين تل أبيب والقدس وأصبحت لهم اليد العليا في حربهم مع الهاجاناه.
وبعد المعاناة من جراء العديد من الهزائم على أيدي المقاتلين الفلسطينيين قرر زعماء الهاجاناه أخذ زمام المبادرة والقيام بالهجوم. وكان هدف الخطة D تأمين كل المناطق المخصصة للدولة اليهودية طبقاً لقرار الأمم المتحدة الخاص بالتقسيم وكذلك تأمين المستوطنات اليهودية خارج هذه المناطق والممرات المؤدية إليها، وبذلك يتم وضع قاعدة صلبة ومستمرة للسيادة اليهودية. إن حدة وجرأة هذه الخطة تكمن في الأوامر الصادرة باحتلال القرى والمدن العربية وهي أمر لم تحاوله الهاجاناه أبداً من قبل.
وعلى الرغم من أن تعبير الخطة D كان غامضاً، فإن هدفها كان يتلخص في تطهير البلد من العناصر العربية المعادية أو التي من المحتمل أن تصبح معادية، وبذلك وجدت ذريعة لطرد المدنيين ومن خلال تنفيذ الخطة D في إبريل ومايو، ساهمت الهاجاناه على نحو مباشر ومحدد في خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.
تفسخ المجتمع الفلسطيني نتيجة للعدوان العسكري اليهودي الذي حدث في إبريل، وكان طرد الفلسطينيين يتم دون إبطاء. كانت هناك أسباب عديدة لخروج الفلسطينيين، تشتمل على الرحيل المبكر للقادة الفلسطينيين عندما سأت الأمور ولكن السبب الأكثر أهمية كان يتمثل في الضغط العسكري اليهودي. لم تكن الخطة D مخططاً سياسياً لطرد عرب فلسطين ولكنها كانت خطة عسكرية ذات أهداف عسكرية وإقليمية.
ومع ذلك، من خلال الأمر باحتلال المدن العربية وتدمير القرى، بررت وسمحت بالخروج الإجباري للمدنيين العرب. وبحلول نهاية عام 1948 وصل عدد اللاجئين الفلسطينيين إلى حوالي 700 ألف لاجئ. ولكن أول وأكبر موجة من اللاجئين قبل الاندلاع الرسمي لهجمات 15 مايو. وقد انتهى المطاف بمعظم اللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي الدول العربية المجاورة وخاصة الأردن وسوريا ولبنان.
أدى انهيار المقاومة الفلسطينية إلى قيام جامعة الدول العربية بحشد الجيوش النظامية للدول الأعضاء من أجل الكفاح ضد التقسيم وهذا يتنافى مع قرارها السابق بالقيام فقط بتمويل وتسليح العرب المحليين بينما على الجانب اليهودي، أدى انقلاب الموقف إلى تعزيز الإيمان بأن القوة العسكرية هي الحل الوحيد للمشكلة العربية. وقد رفضت الوكالة اليهودية اقتراحاً أمريكياً تم تقديمه في الأسبوع الأول من مايو يقضي لوقف إطلاق النار بلا شروط ومد فترة الانتداب عشرة أيام لإفساح الوقت للتفاوض في فلسطين كما تم إجهاض اقتراح بريطاني للهدنة في القدس بسبب المراوغة المستمرة من جانب الوكالة اليهودية.
لم تكن الجهود الدبلوماسية للوكالة اليهودية موجهة نحو الهدنة مع الفلسطينيين ولكنها كانت مكرسة لإثناء الملك عبد الله عن الانضمام لخطة جامعة الدول العربية لغزو فلسطين فور انتهاء الانتداب البريطاني. وفي 11 مايو، تخفت جولدا مائير في زي امرأة عربية وقامت برحلة محفوفة بالمخاطر إلى عمان كمحاولة أخيرة لإنفاذ اتفاقها الذي توصلت إليه مع الملك في اجتماعها معاً قبل ستة أشهر مضت، استقبل الملك زائرته الليلية بترحاب، ولكنه بدا مكتئباً ومعتل المزاج وواقع تحت ضغط كبير. واقترح أن تظل فلسطين غير مقسمة وأن تخضع المناطق التي يسيطر عليها اليهود للتاج الأردني، وهذا ما تم رفضه من جانب مسز مائير بشكل قاطع. واقترحت بدلاً من هذا العرض الجديد أنه يجب الالتزام بالخطة الخاصة بتقسيم فلسطين. لم ينكر عبد الله اتفاقه معها ولكنه أفاد بأن الموقف قد تغير وأنه الآن غير قادر على الوقوف في وجه أنصار التدخل العسكري في فلسطين وقد حذرت مسز مائير الملك من أن اليهود قد زادوا من قوتهم العسكرية في الشهور الأخيرة بدرجة كبيرة، وأنهم رغم كونهم يرغبون في احترام حدود الأمم المتحدة في حالة التقسيم السلمي، سوف يحاربون في كل مكان وبكل قوتهم في حالة نشوب حرب. وقد حثها الملك على التفكير مرة أخرى في عرضه وأن تتصل به في أي وقت قبل 15 مايو. وقد أخبرته قبل انصرافها بأن عرضه غير مقبول وأنه إذا كان قد تراجع عهد اتفاقهما واختار الحرب فإنهما سوف يلتقيان مرة أخرى بعد الحرب.
وفي 12 مايو تم استدعاء مجلس الدولة المؤقت من أجل إصدار قراره النهائي بشأن قبول أو رفض الاقتراح الأمريكي الخاص بالهدنة وتأجيل إعلان الاستقلال أو تنفيذ الخطة الأصلية الخاصة بإعلان إنشاء الدولة اليهودية فور انتهاء الانتداب البريطاني. وفي هذا الاجتماع أعلنت جولدا مائير عن فشل مهمتها في عمان. وقام موشي شاريت بتوصيل النصيحة التي تلقاها في واشنطن من وزير الخارجية جورج مارشال لتأجيل إعلان الاستقلال وتجنب المواجهة العسكرية مع العرب. وقدم القادة العسكريون تقييماً متشائماً للموقف العسكري وحذروا من أن فرص النصر والهزيمة متعادلة.
وكان هذا التخمين بأن اليهود لديهم فرصة قدرها فقط 50% للبقاء قد اعتمد على افتراض مغزاه أنهم عليهم أن يصمدوا في وجه هجوم كاسح لكل الجيوش العربية بما فيها الفليق العربي في الأردن. وعلى الرغم من مخاطر ذلك، ألقي بن جوريون بكل ثقله باقتراحه المتمثل في الإعلان الفوري للاستقلال، وذلك حتى لا تفوته هذه الفرصة التاريخية. وتم تأييد الاقتراح الخاص برفض الهدنة وإعلان الاستقلال من قبل ستة من أعضاء مجلس الدولة المؤقت ورفضه أربعة من الأعضاء. وتقرر أيضاً، بعد إعلان بن جوريون عن رأيه الصريح، عدم الإشارة إلى حدود الدولة الجديدة في الإعلان الاستقلال وذلك من أجل ترك إمكانية التوسع إلى ما وراء الحدود التي رسمتها الأمم المتحدة مفتوحة. كما تقرر أن اسم الدولة الجديدة يجب أن يكون إسرائيل. وفي الرابعة من بعد ظهر 14 مايو 1948، وأمام حشد كبير من الشخصيات البارزة في متحف تل أبيب، قرأ دافيد بن جوريون إعلان الاستقلال وأعلن قيام الدولة اليهودية في فلسطين والتي أطلق عليها اسم دولة إسرائيل. وتعهد إعلان الاستقلال بأن دولة إسرائيل سوف تقوم على مبادئ الحرية والعدل والسلام كما جاء بها أنبياء إسرائيل، وسوف تحافظ على المساواة الاجتماعية والسياسية الكاملة لكل مواطنيها، بدون تمييز للديانة أو العرق أو الجنس، وسوف تحترم مبادئ ميثاق الأمم المتحدة بكل أمانة. وتعهد بوجه خاص بمنح المواطنين العرب المقيمين في إسرائيل نفس الحقوق ومد الأيدي بالسلام لكل الدول العربية المجاورة.
وفي صدر القاعة الرئيسية تم وضع صورة ثيودور هيرتزل حيث بدا وهو يحدق في القادة المجتمعين لتحقيق حلم الدولة اليهودية التي تحدث عنها منذ خمسين عاماً في المؤتمر الصحفي الصهيوني الأول في بازل. ومنذ البداية، أعرب هيرتزل عن الحاجة إلى دعم إحدى القوى العظمى، وهذه الرؤية أيضاً تحولت إلى حقيقة. وكانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بدولة إسرائيل، حيث كان الرئيس هاري ترومان يتصرف على نحو يناقض نصيحة وزارة الخارجية. وفعل الاتحاد السوفيتي نفس الشيء. وعلى ذلك خرجت إسرائيل إلى الوجود ولديها أبوين روحيين، وهما القوتان العظميات في حقبة ما بعد الحرب واللتين بدأتا في حل محل القوى الأوروبية في الشرق الأوسط.
في يوم 15 مايو قامت الجيوش النظامية لمصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق بغزو فلسطين، مدعمة للقوات الفلسطينية غير النظامية وجيش التحرير العربي، والتي كانت ترعاها جامعة الدول العربية. وبذلك تكون إسرائيل قد ولدت في غمرة الحرب. كان الهدف الأول لسياستها الخارجية هو البقاء ولقد تمت إعادة تسمية الهاجاناه وأصبح اسمها جيش الدفاع الإسرائيلي، وتم بعد ذلك حل جماعة أرجون وعصابة شتيرن وانضمت إلى جيش الدفاع الإسرائيلي. كانت حرب استقلال إسرائيل طويلة ومريرة وباهظة التكلفة من حيث الأرواح. سقط فيها ستة آلاف جندي ومدني، وما يوازي 1% من عدد السكان اليهود البالغ عددهم حوالي 650 ألف نسمة. كانت الحرب مقسمة إلى ثلاث جولات تخللها قراران للهدنة من الأمم المتحدة. استمرت الجولة الأولى من 15 مايو وحتى 11 يونيو والثانية من 9 إلى 18 يوليو، أما الثالثة استمرت من أكتوبر وحتى 7 يناير 1949، وإن الرواية الصهيونية التقليدية تصور حرب 1948 على أنها صراع ثنائي بين العدو العربي الموحد الصفوف وإسرائيل البالغة الصغر. وتبعاً لهذه الرواية، قامت سبعة جيوش عربية بغزو فلسطين فور انتهاء الانتداب البريطاني وفي ذهنها هدف واحد خنق الدولة اليهودية في مهدها.
أما الصراع التالي فهو صراع غير متكافئ بين دافيد اليهودي وجولياث العربي. حاربت الدولة اليهودية الوليدة معركة يائسة وبطولية وناجحة من أجل البقاء. وأثناء الحرب فر مئات الألوف من الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة، في الغالب استجابة لأوامر قادتهم وانتظاراً للعودة المظفرة. وبعد انتهاء الحرب، كما تقول الرواية، سعي القادة الإسرائيليون نحو السلام من كل قلوبهم وبكل الوسائل الممكنة، ولكن لم يجدوا أذاناً صاغية من الجانب الآخر. فالتعنت العربي كان وحجه المسئول عن الجمود السياسي الذي استمر ثلاثة عقود بعد أن صمتت المدافع.
هذه الرواية البطولة الأخلاقية الشائعة لحرب 1948 استخدمت بشكل موسع في الدعاية الإسرائيلية ولإنزال تدرس في المدارس الإسرائيلية. وهي مثال نموذجي على استخدام السرد القومي للتاريخ في عملية بناء الأمة. إن التاريخ – إلى حد كبير – هو الدعاية للمنتصرين، وتاريخ حرب 1948 ليس استثناء لذلك. إن ذلك لا يعني أن الرواية الصهيونية التقليدية للحرب العربية – الإسرائيلية الأولى تقوم على الأساطير وليس على الواقع. على العكس، فهذه الرواية تعتمد بدرجة كبيرة على حقائق تاريخية، ولكنها تفسير انتقائي وذاتي لهذه الحقائق، ولأن هذه الرواية تتوافق إلى حد بعيد مع التجربة الشخصية والمفاهيم الخاصة بالإسرائيليين الذي شهدوا حرب 1948 أثبتت أنها تستعطى على التغيير والتعديل. ومع ذلك بعد إطلاق حرية الإطلاع على الوثائق الرسمية أصبحت هذه الرواية خاضعة للنقد. إن الزعمين الأساسيين المرتبطين بالمرحلة الرسمية لحرب 1948 يتعلقان بالتوازن العسكري العربي – الإسرائيلي وأهداف العرب من الحرب.
عند الحديث عن التوازن العسكري، كان يفترض دائماً أن العرب يتمتعون بتفوق عددي ساحق، وكانت الحرب تصور دائماً على أنها صراع القلة ضد الكثرة، إن بطولة واستبسال المقاتلين اليهود ليست شك. وصحيح أنهم كانت لديهم أسلحة متخلفة، على الأقل حتى إعلان الهدنة الأولى، عندما قبلت صفقة الأسلحة التشيكية غير المشروعة الموازين لصالحهم. ولكن في منتصف مايو 1948 كان العدد الكلي للقوات العربية – النظامية وغير النظامية – في مسرح العمليات بفلسطين 25 ألف مقاتل، بينما زاد عدد جنود جيش الدفاع الإسرائيلي على 35 ألف جندي. وفي منتصف يوليو قام الجيش الإسرائيلي بحشد 65 ألف مقاتل وبحلول شهر ديسمبر بلغ عدد أفراد الجيش الإسرائيلي 96414 جندياً. قامت الدول العربية أيضاً بتدعيم قواتها، ولكنها لم تصل أبداً لهذا المعدل. وعلى ذلك، في كل مرحلة من مراحل الحرب، كان الجيش الإسرائيلي يفوق القوات العربية المحتشدة ضده عدداً، وفي المرحلة النهائية من الحرب كانت نسبة تفوقه بلغت 1:2 تقريباً. وعلى ذلك فإن المحصلة النهائية للحرب لم تكن معجزة ولكنها كانت انعكاساً للتوازن العسكري العربي – الإسرائيلي. وفي هذه الحرب، كما يحدث في معظم الحروب، كانت الغلبة في النهاية للطرف الأقوى. وعند الحديث عن الأهداف العربية للحرب، فإن الجيل القديم من المؤرخين الإسرائيليين كانوا يؤمنون بأن كل القوى المرسلة إلى فلسطين كان يجمعها هدف واحد وهو تدمير الدولة اليهودية الوليدة وإلقاء اليهود في البحر، وقد عبروا بذلك عن الشعور السائد لدى الجانب اليهودي في ذلك الوقت.
الواقع أن الخبراء العسكريين للتحالف العربي وضعوا خطة موحدة للغزو، ولكن الملك عبد الله الذي وضعت في يده سلطة قيادة كل الجيوش العربية في فلسطين خرب هذه الخطة من خلال إدخال تعديلات عليها في الدقيقة الأخيرة. إن هدفه من إرسال جيشه إلى فلسطين لم يكن منع إقامة الدولة اليهودية ولكن أن يصبح حاكماً على الجزء العربي من فلسطين. ولم يكن هناك ود بين الملك عبد الله وبقية الحكام العرب، كانوا مستائين من أطماعه التوسعية ومتشككين في احتمال تعاونه مع العدو. أيضاً كل دولة من الدول العربية كانت تحركها مصالح قومية أو شخصية، كانت تختفي خلف حجة تأمين فلسطين للفلسطينيين. إن عجز العرب عن تنسيق خططهم الدبلوماسية والعسكرية كان مسئولاً بدرجة كبيرة عن الكارثة التي حاقت بهم. وكان قادة إسرائيل على علم بهذه الانقسامات واستغلوها لأقصى مدى ممكن بعد نشوب الحرب الرسمية تماماً كما استغلوها من قبل، إن المرء إذا انحصرت رؤيته فقط في العمليات العسكرية لحرب 1948 – كما فعل ذلك عدد لا يحصى من المؤرخين – فسوف يرى الصورة الشائعة لإسرائيل التي تقف في مواجهة العالم العربي بأكمله. ولكن عندما يسبر المرء غور سياسة الحرب، سوف تتكشف له صورة أكثر تعقيداً. وفي حالة بن جوريون يجب أن يتم فهم أهدافه السياسية لأنها كانت دائماً مختلفة عن أهدافه المعلنة. والحقيقة أن أهدافه السياسية هي التي حددت إلى حد كبير سلوك إسرائيل العسكري أثناء الحرب وحدودها عند انتهاء الحرب.
كان لدى بن جوريون إستراتيجية شاملة، والتي قدمها إلى الأركان العامة للقوات المسلحة في 24 مايو بعد مرور عشرة أيام على إعلان الاستقلال، شدد فيها على عدة نقاط جوهرية. أولاً، أنه لديه ترتيب واضح للأولويات: القدس ثم الجليل في الشمال ثم النقب في الجنوب. ثانياً إنه يفضل إستراتيجية الهجوم على إستراتيجية الدفاع. ثالثاً، إن وسيلته في التعامل مع القوات العربية المعادية، والتي أصبحت بعد ذلك عقيدة ثابتة في مذهب الأمن الإسرائيلي، تتلخص في التقاط العرب دولة بعد أخرى: أي الهجوم على جبهة واحدة في كل مرة والامتناع عن الهجوم على الجبهات الأخرى. رابعاً، رغب في استعراض القوة مع الفليق العربي بالأردن، اعتقاداً منه بأنه إذا تمت هزيمة ذلك الفليق الجبار، فإن كل الجيوش العربية الأخرى سرعان ما يصيبها الانهيار.
في تلك المرحلة المبكرة من الحرب كان هناك خلاف عميق بين بن جوريون وجنرالاته. فقد اعتبر الفليق العربي العدو رقم واحد، بينما كان من رأيهم أن الجيش المصري هو مصدر التهديد الأساسي. وقد أراد حشد الجانب الأكبر من قوات إسرائيل داخل وحول القدس، بينما أرادوا إعطاء الأولوية للجبهة الجنوبية. ومن الواضح أن بن جوريون لم يعتبر نفسه ملزماً بالاتفاق السابق مع عبد الله بمجرد تراجع عبد الله نفسه عن هذا الاتفاق. وعلى أي حال فإن الاتفاق السابق لم يكن يشمل القدس، والتي كانت طبقاً لمشروع الأمم المتحدة من المفترض أن تصبح كياناً منفصلاً خاضعاً لإدارة دولية. وقد بدأت معركة القدس بواسطة هجوم إسرائيلي وذلك قبل أيام قليلة من انتهاء الانتداب البريطاني، وبسبب هذا الهجوم أمر الملك عبد الله الفليق العربي في 17 مايو بالتحرك للدفاع عن المدينة القديمة.
بمجرد توقف الهجوم الإسرائيلي، انتقل محور القتال إلى لا ترون وهي هضبة تمتلئ بالتحصينات تسيطر على الطريق الرئيسي الواصل بين تل أبيب والقدس. وقد خصص مشروع الأمم المتحدة للتقسيم لا ترون للدولة العربية، ولكن أهميتها الإستراتيجية جعلت بن جوريون مصراً على الاستيلاء عليها. وعلى غير رغبة جنرالاته، أصدر أوامره، بالقيام بثلاث هجمات أمامية على اللطرون، وتم صدها جميعاً بواسطة الفليق العربي قبل أن تعلن هدنة الأمم المتحدة نهاية الجولة الأولى من القتال، كانت هذه الهدنة بالنسبة للإسرائيليين حسب كلمات الجنرال موشي كارمل بمثابة "رحمة من السماء". استثمروها في تجنيد المزيد من الجنود وإعادة التدريب وإعادة التنظيم وإعادة التسليح. وقام الكونت فولك برنادوت – وسيط الأمم المتحدة – بتقديم اقتراحات للتسوية في 17 يونيو، ولكنه رفضت من قبل الجانبين. وفي 17 سبتمبر، بعد يوم واحد من إرسال برنادوت لتقريره الثاني إلى الأمم المتحدة، تم اغتياله في القدس على أيدي أعضاء عصابة شتيرون القومية المتطرفة، التي اعتبرت النبيل السويدي عميلاً للحكومة البريطانية. والقيادة الثلاثية التي أمرت باغتيال وسيط الأمم المتحدة كانت تضم إسحاق شامير، رئيس وزراء إسرائيل في وقت لاحق. استمرت عصابة شتيرون ووحدات أرجون في السعي نحو انتهاج سياسات مستقلة في القدس، والتي لم تكن سيادة اليهود أعلنت عليها وقد رفض كلاً التنظيمين الهدنة وخططاً للقتال من أجل إقامة "Free Judea" خارج دولة إسرائيل. ودفع اغتيال برنادوت إلى العدالة.
عندما قامت مصر بخرق الهدنة في 8 يوليو، كان جيش الدفاع الإسرائيلي متأهباً للقيام بهجوم مضاد. وكان الفليق العربي هو الهدف الرئيسي للهجوم المضاد. وكانت عملية داني تهدف إلى التخلص من حاجز ليدا – رامل، الذي كان يهدد الطريق إلى القدس، وتوسيع الممر المؤدي إلى القدس من خلال الاستيلاء على اللطرون ورام الله. وكل هذه الأماكن خصصت في مشروع الأمم المتحدة للدولة العربية وكانت تقع في نطاق المناطق التي يسيطر عليها الفليق العربي. وتم الاستيلاء على ليدا ورامل اللتين تركتا بلا حماية، بواسطة جيش الدفاع الإسرائيلي في 12 يوليو وتم إجبار سكانهما على الفرار وفي اللطرون ورام الله ومدينة القدس القديمة، نجح الفليق العربي في الدفاع عن مواقعه. ومع ذلك لم يحاول الفليق العربي – وهذا أمر له مغزى عميق – الاستيلاء على أي أرض تابعة للدولة اليهودية. وتخلت كل الجيوش العربية الأخرى عن مواقعها لإسرائيل. وحسنت إسرائيل موقفها إلى حد كبير كمحصلة لعشرة أيام من القتال: لقد أخذت زمام المبادرة واحتفظت بها حتى نهاية الحرب.
في النصف الثاني من الحرب، بدأت العلاقة الخاصة بين إسرائيل والأردن تتوطد أواصرها تدريجياً. وفي صيف 1948 بدأت جيوشهما تسترد وعيها، ولكن حتى في ذروة الحرب ظلت الدولتان حسب تعبير أوري بار جوزيف "من أفضل الأعداء". وفي أثناء الحرب واصل الملك عبد الله السعي نحو أهداف محددة ولم يقم بأي محاولة لاختراق أراضي الدولة اليهودية. أما بن جوريون، من جانبه، فإنه لم يحجم عن فعل ذلك، وفي أول جولتين للحرب على الأقل، عمل حسب المثل الشائع "الحرب حرب". ومع ذلك أثناء الهدنة الثانية المطولة كان لديه الوقت الكافي للتفكير في للالتزام بالاتفاق الأصلي لتقسيم فلسطين العربية بين إسرائيل والأردن، وهو اتفاق أظهر عبد الله بشأنه الكثير من الإيماءات التي تشير إلى رغبته في إعادته إلى الحياة.
وفي 26 سبتمبر، اقترح بن جوريون على مجلس الوزراء القيام بهجوم عسكري كبير من أجل الاستيلاء على مساحات واسعة من الضفة الغربية. وفي هذا الوقت كان جيش الدفاع الإسرائيلي لديه القدرة العسكرية التي تمكنه من الاستيلاء على الضفة الغربية بأكملها، وكل ما كان يحتاج إليه هو الأمر بالتحرك. في مجلس الوزراء صوت ستة وزراء لصالح الاقتراح وستة وزراء آخرين ضده، وبذلك تم إلغاء الاقتراح. وصف بن جوريون هذا القرار بأنه سيسبب "الحزن للأجيال القادمة". ولكن من المؤكد أنه واتته أفكار أخرى بشأن مدى عقلانية اقتراحه، لأنه لم يتحدث عنه مرة أخرى، وقد اقترح أولئك الذين يعرفونه عن كثب العديد من الأسباب التي جعلته يحجم عن الإلحاح من أجل الاستيلاء على الضفة الغربية أو جانب كبير منها. أو هذه الأسباب وأهمها، أنه قد خشي التدخل العسكري البريطاني تبعاً لبنود اتفاقية الدفاع المشترك الأنجلو – أردنه. ثانياً، توقع أن سكان الضفة الغربية قد لا يفرون منها وهو لا يسمح بوجود أعداد كبيرة من العرب تزيد عن الحد الضروري داخل حدود الدولة اليهودية. ثالثاً، أدرك أن الاستيلاء على جانب كبير من الضفة الغربية يمكن أن يدمر العلاقة مع الملك عبد الله. وأياً كانت دوافعه، فإن بن جوريون تحمل المسئولية الكاملة عن قراره السياسي بترك كامل الضفة الغربية في أيدي الملك عبد الله. وبعد التخلي عن خطة الهجوم العسكري على الجبهة الشرقية، أبدي بن جوريون اهتماماً متزايداً بفكرة الهجوم على الجيش المصري الذي كان لا يزال يحتل النقب. وفي هذا الوقت بالتحديد تلقت إسرائيل مبادرة سلام من البلاط الملكي المصري الذي كان يعتريه القلق على تخليص نفسه من المستنقع الفلسطيني. التقى كامل رياض مبعوث الملك فاروق، في باريس، مع إلياس ساسون، رئيس قسم الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الإسرائيلية وهو يتحدث العربية بطلاقة ومن القادة المعتدلين اقترح رياض اعتراف مصر بإسرائيل في مقابل الاتفاق على ضم قطاع كبير من النقب إلى مصر. وأراد موشي شاريت دراسة مبادرة السلام هذه، ولكن بن جوريون نحاها جانباً. وانقسم مجلس الوزراء إلى فريقين، أحدهما يميل للسلام مع مصر، والآخر – الذي ينتمي إليه بن جوريون – يميل للسلام مع الأردن.
وفي 6 أكتوبر، تقدم بن جوريون باقتراح إلى مجلس الوزراء لاستئناف الحرب ضد مصر، دون أن يشير حتى إلى مبادرة السلام المصرية. بدلاً من ذلك أفاد بأن العلاقات بين الأردن ومصر في غاية التوتر وأن الفليق العربي ليس من المرجح أن يتدخل إذا استأنفت إسرائيل القتال ضد مصر. وفي 15 أكتوبر، خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار وبدأت الهجوم على القوات المصرية في الجنوب. وعند وقف إطلاق النار في 7 يناير 1949، كانت النقب بأكملها في حوزة إسرائيل. وخلال الحربي بين إسرائيل ومصر، ظل الفليق العربي على الحياد. وقد خرجت إسرائيل والأردن من الحرب كأحسن ما يكون الأعداء.
إن العلاقة الخاصة بين إسرائيل والملك عبد الله كانت عاملاً جوهراً في تحديد مسار ونتيجة الحرب العربية الإسرائيلية الأولى. وهذا العالم يتم إغفاله بدرجة كبيرة في التأريخ الصهيوني، بسبب أنه لا يتماشى مع الرواية البطولة للحرب التي وقفت فيها إسرائيل الهزيلة وحيدة أمام العالم العربي بأكمله. إن لقاءات عبد الله مع جولدا مائير كانت معروفة على نحو شائع في إسرائيل قبل وقت طويل من إطلاق حرية الإطلاع على المستندات الرسمية. والاتهام المعتاد الموجه إلى الملك عبد الله هو أنه عندما حانت اللحظة تراجع عن اتفاقه وانضم إلى الحشود العربية لتدمير الدولة اليهودية التي لم تشب عن الطوق بعد. ومع ذلك فإن التحليل الأدق لحرب 1948 يميط اللثام عن أن عبد الله قد ظل وفياً لاتفاقه الأصلي مع جولدا مائير على نحو ملحوظ. علاوة على ذلك، تم استغلال العلاقة الخاصة مع عبد الله بواسطة إسرائيل أبشع استغلال وبمهارة فائقة لكسر حصار الدول العربية المعادية، وتعميق الانقسامات في الصف العربي وتقليب الدول العربية على بعضها البعض. وبدون وجود هذه العلاقة الخاصة، لم يكن من المرجح تحقيق ذلك الانتصار الشامل والساحق في أول الحروب العربية الإسرائيلية.
خرجت إسرائيل من الحرب مستنزفة اقتصادياً ولكنها مرتفعة المعنويات وفائقة التنظيم ولديها إحساس هائل بالإنجاز، والتطلع بثقة إلى المستقبل، الأمر الذي شكل قاعدة متينة لازدهار الديمقراطية البرلمانية. وقد أجريت أول انتخابات عامة لانتخاب أعضاء الكنيست أو البرلمان البالغ عددهم 120 عضواً في 25 يناير 1949. وتم تبني نظام التمثيل النسبي، الذي شجع على انتشار الأحزاب الصغيرة وأدى إلى تكوين حكومات ائتلافية لأنه لم يحقق أي حزب من الأحزاب أبداً أغلبية مطلقة. وقد حصل حزب ماباي على 36% من الأصوات، وحزب مابام اليساري على 15%، والحزب الديني المتحد على 12%، وحزب حيروت اليميني على 11.5%، والصهاينة العمومية على 5%، والحزب التقدمي على 4%، والحزب الشيوعية على 3.5% والسفارديم على 3.5%، وبقية الأصوات قسمت على عدد من الأحزاب الأصغر. وبعد الانتخابات، شكل دافيد بن جوريون حكومة ائتلافية تتكون من ماباي والحزب الديني والحزب التقدمي والأحزاب السفاردية (أي اليهود الشرقيون). وقد ظلت المناصب الثلاثة العليا دون تغيير، بن جوريون كرئيس للوزراء ووزيراً للدفاع، وموشي شاريت كوزير للخارجية، وإليعازر كابلان كوزير للمالية.
وعلى ذلك ظل حزب ماباي محتكراً لأنشطة الدفاع والشئون الخارجية، وقد نجح في إقصاء اليسار المتطرف واليمين المتطرف عن السلطة. وباعتباره زعيماً صهيونياً أمريكياً معتدلاً، أشار ناحوم جولدمان في مذكراته إلى أن نصر 1948 العسكري قد أحدث تأثيراً سيكولوجياً في إسرائيل: "لقد بين مدى تميز الفعل المباشر عن التفاوض والدبلوماسية .. جاء النصر بذلك المجد الذي يتناقض مع قرون الاضطهاد والذل، والتكيف والخضوع، إنه يبدو وكأنه يشير إلى الاتجاه الوحيد الذي يمكن المضي فيه من الآن فصاعداً. ألا نحتمل شيئاً، وألا نتسامح في أي هجوم وأن نحل أصعب العقد وأن نصنع التاريخ من خلال جعل الحقائق تبدو بسيطة جداً، وقاهرة جداً، ومرضية جداً، هذا ما أصبحت عليه سياسة إسرائيل في صراعها مع العالم العربي.
لم يظهر الأثر السيكولوجي للانتصار في أي موضوع آخر بهذا الوضوح الذي ظهر به في حالة دافيد بن جوريون. نزع بن جوريون دائماً إلى التفكير في الصراع العربي الإسرائيلي من خلال التوازن العسكري للقوى. وفي عام 1948 كان من الطبيعي أنه يجب أن يركز فقط على الصراع العسكري. ولكن بحلول نهاية عام 1948 كانت انتصارات جيش الدفاع الإسرائيلي تتطلب بعض التخطيط السياسي المستقبلي. وقد أصدر شاريت أوامره لقسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية لكي يستكشف خططاً متعددة من أجل حكومة فلسطينية. أما بن جوريون، على الجانب المقابل، كان يحبط أي تخطيط سياسي من أي نوع ويؤكد على التفوق العسكري لإسرائيل. نتيجة لذلك، فإن عرب إسرائيل زاد لديهم الشعور بالتجاهل والإحباط. ويبدو هذا واضحاً من خلال خطاب تم إرساله في الثاني من نوفمبر 1948 بواسطة ياكوف شيموني، نائب رئيس قسم الشرق الأوسط بوزارة الخارجية، إلى رئيسه إلياس ساسون، والذي كان في باريس في وقت إجراء حوار مع العديد من المسئولين العرب والفلسطيني. وقد شكا شيموني من أن بن جوريون "يسعى إلى حل معظم المشاكل بالوسائل العسكرية، وبهذه الطريقة لا تكون هناك أي قيمة للمفاوضات أو التحركات السياسية".
ولأن هناك جيشاً منتصراً يقف وراءه، لم يتجاهل بن جوريون فقط نصيحة الخبراء السياسيين ولكنه تجاهل أيضاً نداءات الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار. ومع نهاية ديسمبر، شن هجوماً ثانياً على الجنوب، فيما سمي بعملية حوريف، بهدف إرغام الجيش المصري على التقهقر إلى الحدود الدولية وقد اخترق جيش الدفاع الإسرائيلي سيناء ووصل إلى ضواحي العريش ولكن الضغط الأمريكي الكثيف أجبره على الانسحاب وترك قطاع غزة في أيدي المصريين. وافق الجانبان على نداء مجلس الأمن بوقف إطلاق النار في 7 يناير 1949 كما وافق على بدء مفاوضات الهدنة.
وأجريت مفاوضات الهدنة بين إسرائيل والدول العربية المجاورة بمساعدة دكتور رالف بانش، بجزيرة رودس في 13 يناير، عينت الأمم المتحدة بانش للعمل كوسيط في فلسطين بعد اغتيال الكونت برنادوت. ومن أجل هذه المهمة الشاقة حشد المسئول الأمريكي الأسود كل مهاراته الدبلوماسية التي سرعان ما أعطيت حق قدرها من خلال منحه جائزة نوبل للسلام. قامت إسرائيل بالتفاوض مع كل دولة عربية على حدة، بادئة بمصر، وأبرمت اتفاقية هدنة منفصلة مع كل منها. ولقد تم توقيع الاتفاقية بين إسرائيل ومصر في فبراير وبين إسرائيل ولبنان في 23 مارس وبين إسرائيل والأردن في 3 إبريل وبين إسرائيل وسوريا في 20 يوليو. وكل مجموعة من المفاوضات كانت لها طبيعة منفصلة، ووضعت لها شروطاً خاصة بها حسب الظروف العسكرية والسياسية للجبهة الخاصة بها. أم الشيء المشترك بين كل المفاوضات في أنها قد أجريت جميعاً تحت رعاية الأمم المتحدة. وبدأت المفاوضات بين إسرائيل ومصر في 13 يناير واستمرت لمدة ستة أسابيع.
إن إسرائيل الثملة بنشوة النصر في الحرب والسيطرة عسكرياً على معظم النقيب ثابت إلى رشدها إلى حد ما من خلال تطبيق قرارات الأمم المتحدة التي جاءت لصالح مصر. واختلف الوفد الإسرائيلي حول بعض الموضوعات التي جاءت في جدول الأعمال: فالممثلون العسكريون بقيادة إيجال يادين قد شعروا أن موقف الحكومة متساهل جداً، بينما الدبلوماسيون بقيادة دكتور وولتر إتيان – المدير العام لوزارة الخارجية – قد حذروا من أن الخط الذي تنتهجه الحكومة ليس مرناً بما يكفي.
وفي يوم 24 فبراير تم توقيع اتفاقية الهدنة التي تنتهي رسمياً حالة الحرب بين إسرائيل ومصر. وكان يجب على كلا الطرفين قطع شوط كبير انطلاقاً من موقفهم الاستهلالي من أجل جعل هذه الاتفاقية ممكنة التنفيذ. وكان على إسرائيل أن توافق على وجود عسكري مصري في قطاع غزة، وأن تكون منطقة الأوجاع منزوعة السلاح. وفي جلسات مباحثات خاصة أخبر اللبنانيون الإسرائيليين بأنهم لا يستطيعون أن يكونوا أول دولة عربية تتفاوض بشكل مباشر مع إسرائيل ولكنهم يتوقعون أن يكونوا هم الدولة الثانية التي تفعل ذلك. قالوا أيضاً بأنهم في الواقع ليسوا عرباً وأنهم قد انجرفوا إلى مغامرة فلسطين رغماً عنهم. وعندما بدأت المحادثات الرسمية، قام جيش الدفاع الإسرائيلي باحتلال شريط ضيق من الأراضي اللبنانية يحتوي على شرط أن ينسحب الجيش السوري بالمثل من قطعة من الأرض لازال يحتلها على الضفة الشرقية لبحر الجليل. وفي النهاية فإن محاولة الربط بين الجبهتين اللبنانية والسورية قد تم التخلي عنها. وكان بن جوريون يؤمن بأنه ليس من المستحب الربط بين بلد عربي وآخر، وأن مصلحة إسرائيل يمكن خدمتها على نحو أفضل من خلال التعامل مع كل بلد عربي على حدة. وقد أدرك أيضاً بأن اتفاقية الهدنة مع لبنان يمكن أن تحسن سمعة إسرائيل العالمية وتضعها في موقف أقوى للتفاوض مع الأردن.
اختلفت مفاوضات الهدنة بين إسرائيل والأردن عن المفاوضات التي سبقتها مع مصر ولبنان والمفاوضات التي سوف تليها مع سوريا. وكانت المفاوضات متأثرة بالسمات الفردية للجبهة الأردنية، وبالسيطرة العراقية على جزء من الجبهة، وبالعلاقات السياسة الخاصة بين الملك عبد الله والدولة اليهودية. وبعد أن امتلك زمام السيطرة العسكرية على الضفة الغربية، ظل عبد الله في حالة زحف مستمر من أجل الضم بلغت ذروتها بصدور قانون الاتحاد في إبريل 1950. وقد أعلن العرب رفضهم سياسته لضم الضفة الغربية مما جعل عبد الله أكثر اعتماداً على حسن نوايا إسرائيل. والواقع، أنه اعتمد على إسرائيل لكي تساعده في حشد التأييد العالمي، وخاصة، التأييد الأمريكي، من أجل دمج باقي فلسطين العربية داخل مملكته، وهذه كانت خلفية تجديد الاتصال المباشر بين الجانبين في خريف 1948. إن القدس، التي تمثل أكثر المناطق تفجراً على طول الجبهة الشرقية، قد مثلت نقطة الانطلاق للمحادثات بين الجانبين. وقد كان بن جوريون متأهباً لتنفيذ وقف إطلاق نار فعلي في القدس من أجل جر عبد الله إلى محادثات شاملة. وفي نوفمبر 1948 تم إجراء اتصال مباشر بين قائدتين عسكريين محليين في القدس وهما المقدم موشي ديان والمقدم عبد الله التل. وقد أدت هذه الاتصالات إلى توقيع "وقف إطلاق نار تام وصادق" في القدس في 30 نوفمبر. وهذه الخطوة من جانب بن جوريون قد مثلت تخلياً كاملاً عن هدف جعل القدس بأكملها خاضعة للسيادة الإسرائيلية ووضع بدلاً منه هدفاً أكثر تواضعاً وهو تقسيم القدس بين إسرائيل والأردن. ولقد بدا هذا التقسيم الاستراتيجي أكثر واقعية في هذا الوقت من أجل تجنب الضغط المستمر من جانب القوى العظمى والأمم المتحدة لتدويل المدينة.
فيما يختص بموضوع الضفة الغربية، انقسمت الآراء. كان إلياس ساسون يؤمن بأن إسرائيل يجب أن تؤيد خطة عبد الله لضمها. أما الخبراء العسكريون فقد اعتبروا أن خط وقف إطلاق النار على الضفة الغربية يتعذر الدفاع عنه وأعربوا عن مخاوفهم من أن التفاوض مع عبد الله يمكن أن يفقد إسرائيل خيارها العسكري. وعلى الرغم من معارضته تقديم الدعم الصريح لضم عبد الله للضفة الغربية، فإن بن جوريون أراد أيضاً وضع نهاية للحرب، وتحدث أمام مجلس الوزراء في 19 ديسمبر قائلاً "ربما يكون الحل الوحيد هو عبد الله". واعترض أعضاء حزب مابام اليساري على الضم وكانوا مازالوا يؤيدون إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وقد أصدر مجلس الوزراء قراراً بفتح مفاوضات هدنة مع الأردن، ولكن بدون أي التزام مسبق لدعم خطط الملك التوسعية وبدون التخلي عن إمكانية القيام بعمليات عسكرية.
وعندما بدأت المباحثات المباشرة بين الجانبين في 26 ديسمبر، كان الفليق العربي يسيطر أيضاً على أجزاء من جنوب النقب. وأثناء المباحثات، أصبح من الواضح أن عبد الله لن يكون راغباً في الانسحاب من هذه المواقع. وعلى ذلك قام القادة الإسرائيليون بالتخطيط لعملية عسكرية من أجل إجبار الفليق العربي على التقهقر إلى الجانب الخاص به من الحدود الدولية. لقد كان يحدوهم الأمل في تنفيذ هذه العملية بعد توقيع اتفاقية الهدنة مع مصر وقبل بدء مفاوضات الهدنة مع الأردن. ولأنهم قد جنوا من قبل ثمار الحياد الأردني أثناء الحرب مع مصر، راهن القادة الإسرائيليون على الحياد المصري أثناء الهجوم المخطط على الأردن. ولكن محاولة تأخير بداية المفاوضات مع الأردن لم تكلل بالنجاح.
افتتحت مفاوضات الهدنة الرسمية برئاسة دكتور بانش في 4 مارس 1949 واستمرت لمدة أسبوع. وأراد عبد الله إجراء مفاوضات هدنة حقيقية مع ممثلي إسرائيل بشكل خاص وسري في قصره الشتوي في شونة. وعلى ذلك فقد بعث بضابط جيش صغار إلى المحادثات في رودس، الأم الذي جعل المشهد أشبه ما يكون بمسرح العرائس. وبعد مرور يوم واحد فقط من افتتاح العرض، بدأت إسرائيل عملية أوفدا (الأمر الواقع) من أجل بسط سيطرتها على جنوب النقب، حتى إيلات. وقد ساقت هذه العملية مفاوضات الهدنة إلى أزمة عميقة، ولكن الحقائق التي أوجدتها كان لا يمكن قلبها.
هناك أزمة أخرى حدثت قرب منتصف مارس عندما وافق الأردن والعراق على أن الفليق العربي يجب أن يتولى مسئولية المواقع التي يسيطر عليها الجيش العراقي في القطاع الشمالي من الضفة الغربية. وقد اقتنصت إسرائيل الفرصة بممارسة ضغوط عنيفة على عبد الله من أجل التنازل عن قطاع ضخم من الأرض في منطقة وادي عارة. وقد أصبح واضحاً لعبد الله أن إسرائيل على استعداد تام للجوء إلى القوة العسكرية إذ لم يستجيب لمطالبها، فأذعن مرة أخرى.
تم توقيع اتفاقية الهدنة الإسرائيلية – الأردنية العامة، مصحوبة بالخرائط، في رودس بتاريخ 3 إبريل 1949. وقد تطابقت الحدود في الجنوب مع الحدود الدولية، وعكست الحدود مع العراق تنازلات عبد الله، وفي القدس كانت قائمة على (وقف إطلاق النار التام والصادق) بتاريخ 30 نوفمبر. ومنح البند الثامن السلطة للجنة خاصة، مؤلفة من ممثلي الطرفين للتعامل مع كل المشاكل البارزة، مثل حركة المرور على الطرق الحيوية والوصول إلى الأماكن المقدسة في مدينة القدس القديمة.
مثلت اتفاقية الهدنة مع الأردن انتصاراً عظيماً للدبلوماسية الإسرائيلية. ومصطلح "دبلوماسية الإكراه" يمكن أن يكون أكثر ملائمة، بما أن المفاوضات كانت مصحوبة بالتهديد، والاستخدام الفعلي للقوى العسكرية. هذا الجمع بين الدبلوماسية والقوة قد ضمن لإسرائيل الحصول على مناطق هامة وتحقيق مكاسب إستراتيجية في النقب وفي منطقة وادي عارة. ومن أجل تجنب الصدام العسكري، كن على عبد الله أن ينسحب. ومع ذلك، اعترفت إسرائيل ضمناً من خلال توقيعها لاتفاقية الهدنة، بسيطرته على مساحة كبيرة من الأراضي التي خصصتها الأمم المتحدة للدولة الفلسطينية وقد تم توقيع الاتفاقية باسم المملكة الأردنية الهاشمية، وهذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها هذا الاسم بصفة رسمية.
بذلك أفسحت فلسطين والأردن الطريق لإسرائيل والمملكة الأردنية الهاشمية، وعكست هذه المسميات الجديدة الواقع الجديد. أما فلسطين العربية أو ما تبقى منها فقد عرف رسمياً باسم الأردن الغربية، أو بشكل غير رسمي باسم الضفة الغربية، بينما الأردن السابقة أصبحت تعرف باسم الأردن الشرقية أو الضفة الشرقية. بعد الأردن جاء دور سوريا في التفاوض على الهدنة مع إسرائيل ومن بين كل الدول العربية أثبتت سوريا أنه الدولة الأكثر صلابة والمستعصية على الكسر. وكانت مفاوضتها هي الأكثر طولاً، حيث استمرت من 5 إبريل وحتى 20 يوليو. وفي أثناء القتال، أقامت القوات السورية عدداً من رؤوس الكباري على الأراضي السورية، شمال وجنوب بحر الجليل، وقد باءت كل محاولات جيش الدفاع الإسرائيلي لإرغامها على التقهقر إلى الحدود الدولية بالفشل. وبذلك فإن إسرائيل كانت في موقف عسكري ضعيف عند بدء المحاولات، ولكن موقفها الدولي كان قوياً بسبب اتفاقيات الهدنة الثلاثة التي أبرمتها بالفعل تحت رعاية الأمم المتحدة ومن خلال قبولها كعضو في الأمم المتحدة. كانت سوريا في موقف عسكري قوي ولكنها كانت غير مستقلة داخلياً. وفي 30 مارس، قبل أقل من أسبوع بدء مباحثات الهدنة، قام الكولونيل حسني الزعيم قائد الأركان بالإطاحة بالنظام الحاكم في سوريا من خلال انقلاب سلمي، وقد أدى هذا الانقلاب إلى تهيئة الساحة لتدخل العسكريين في السياسة العربية والانقلاب على النظام القديم الذي اعتبر مسئولاً عن ضياع فلسطين. وعلى الرغم من أن الزعيم وعد شركاءه بقتال الصهيونية حتى النهاية، فإنه بمجرد استيلائه على السلطة لم يأل جهداً في محاولة الوصول إلى سلام مع إسرائيل. وقد أعلن على رؤوس الأشهاد عن أمله في أن يكون أول زعيم عربي يعقد اتفاقية سلام مع إسرائيل وأعرب مراراً عن رغبته في لقاء بن جوريون لكي يعملان معاً على الوصول إلى هذه الغاية. وقد انتهت المرحلة الأولى من مفاوضات الهدنة بالجمود التام لأن المواقف الافتتاحية لإسرائيل وسوريا كانت تفصل بينها هوة واسعة، ولم يكن أياً منهما لديه أي استعداد للتزحزح قيد أنملة.
أصرت إسرائيل على وجوب حدوث انسحاب سوري غير مشروط إلى الحدود الدولية، بينما أصرت سوريا على أن خط وقف إطلاق النار الحالي يجب أن يصبح هو الحدود الجديدة ومن أجل كسر هذا الجمود، تقدم الزعيم باقتراح بالغ الجرأة التهور. أراد تخطي مباحثات الهدنة تماماً والانتقال مباشرة إلى عقد اتفاقية سلام، مع تبادل السفراء، وفتح الحدود، وإقامة علاقات اقتصادية طبيعية، وكحافز إضافي، عرض الزعيم – في سياق التسوية الشاملة – توطين 300 ألف لاجئ فلسطيني، أي مات يقرب من نصف عددهم الكلي في شمال سوريا. وكان لدى سوريا في هذا الوقت 100 ألف لاجئ، وبذلك فإن العرض قد تضمن التوطين الدائم في سوريا لمائتي ألف لاجئ إضافي موجودين في دول عربية أخرى. وفي المقابل طلب تعديل الحدود الدولية لإعطاء سوريا نصف بحر الجليل. وقد عرض الزعيم أيضاً اللقاء مع بن جوريون وجهاً لوجه من أجل الخروج من مأزق المباحثات ذات مستوى التمثيل المنخفض. وقد رفض بن جوريون عرض الزعيم قلباً وقالباً وبعد ذلك أصدر أوامره لممثلي إسرائيل بأن يخبروا السوريين بشكل قاطع بأن عليهم أولاً التوقيع على اتفاقية هدنة بناء على الحدود الدولية القديمة وحينئذ فقط يمكن أن تكون إسرائيل مستعدة لمناقشة السلام والتعاون. وقد واصل بن جوريون المراجعة المستمرة والنشطة لخطط عسكرية تهدف إلى طرد القوات السورية من مواقعها على الجانب الإسرائيلي للحدود الدولية، وبسبب عدم تحقيق أي تقدم تم تعليق مفاوضات الهدنة في 17 مايو. كانت خطوة الزعيم التالية هي التقدم بعرض سري إلى إسرائيل من خلال الأمم المتحدة اشتمل على العناصر التالية: وقف إطلاق نار قائم على الخطوط العسكرية الحالية وتسوية سلام في غضون ثلاثة شهور بناء على الحدود الدولية القديمة وتوطين 300 ألف لاجئ فلسطيني في سوريا. وتم إسقاط المطلب الخاص بإعادة ترسيم الحدود الدولية. وقد علق موشي شاريت – الذي قام بإبلاغ مجلس الوزراء بهذا التطور في 24 مايو – أهمية كبرى على عرض الزعيم، وخاصة اقتراح توطين 300 ألف لاجئ، وشدد على رغبته في عقد لقاء عالي المستوى مع الزعيم. من ناحية أخرى، أعرب بن جوريون عن تشككه في أن يكون ذلك مصيدة دبلوماسية وأصر على رفضه الالتقاء بالزعيم وقرأ بن جوريون على مجلس الوزراء رده على بانش الذي حثه على إجابة مطالب الزعيم للالتقاء به. وتضمن الرد استعداد بن جوريون للالتقاء بالكولونيل الزعيم من أجل تشجيع السلام ولكنه لا يرى أي جدوى من هذا اللقاء حتى يعلن ممثلو سوريا في مباحثات الهدنة بوضوح تام عن استعدادهم للانسحاب إلى خطوط ما قبل الحرب.
حينئذ أخذ بانش زمام المبادرة باقتراح حل وسط أرضى الطرفين. تلخص مشروعه في نزع السلاح، بالمنطقة التي تقع بين الحدود الدولية وخطوط وقف إطلاق النار وذلك بعد انسحاب القوات السورية من مواقعها الأمامية. عوض هذا الاقتراح سوريا عن القيام بانسحاب كامل بينما حرر إسرائيل من وجود قوات سورية على أرضيها، كانت هذه الصيغة للتسوية معقدة وغامضة فيما يتعلق بكثير من القضايا الهامة مثل وضع المناطق المنزوعة السلاح، والتي سوف تكون مصدراً لنزاعات وصدامات لا تنتهي في الأعوام القادمة. ولكن هذا الاقتراح مكن إسرائيل وسوريا في النهاية من توقيع اتفاقية هدنة في يوم 20 يوليو. وبعد مرور ثلاثة أسابيع تمت الإطاحة بحسني الزعيم في انقلاب عسكري دموي. ومع إبرام الاتفاقية بين إسرائيل وسوريا في 20 يوليو، اكتملت مفاوضات الهدنة برودس. وانتهت أول حرب عربية – إسرائيلية رسمياً. وفي أثناء الحرب، قامت إسرائيل بتوسيع أراضيها من 55% من فلسطين الواقعة تحت الانتداب، وهي النسبة التي خصصت لها بواسطة الأمم المتحدة إلى 79%. ونجحت إسرائيل في طرد كل القوات العربية من فلسطين باستثناء الفليق العربي، والذي ظل مسيطراً على الضفة الغربية وقضي ذلك على مشروع الأمم المتحدة الخاص بالدولة الفلسطينية المستقلة. وترك الفلسطينيون في العراء. وتم محو اسم فلسطين من عللا الخريطة (أنظر الخريطة رقم 4). ومما يثير الهشة، أن تسوية ما بعد الحرب قامت على نفس القاعدة التي اتفق عليها الملك عبد الله وجولدا مائير في نوفمبر 1947 ألا وهي تقسيم فلسطين على حساب الفلسطينيين. إنه مثال صارخ على النهج السياسي الواقعي المتلبد الشعور الذي ساد المسلك الإسرائيلي أثناء الحرب العربية الإسرائيلية الأولى.
كان الهدف من اتفاقيات الهدنة أن تكون بمثابة خطوات على طريق السلام، وجاء في المقدمة الموحدة لاتفاقيات الهدنة الأربعة أن هدفها هو "تسهيل الانتقال من الهدنة الحالية إلى السلام الدائم في فلسطين". ومع ذلك لم يحدث في أي حالة من الحالات أن تحولت اتفاقية الهدنة إلى أداة للوصول إلى تسوية سلام رسمية. لماذا لم تحدث تسوية سياسية بين إسرائيل وجيرانها بعد أن هدأت المدافع؟ لماذا أثبت السلام أنه بهذا القدر من المراوغة؟ هذا أحد الموضوعات الأكثر إثارة للجدل المستمر حول 1948.
إن الإجابة الصهيونية التقليدية يمكن تلخيصها في كلمتين: تعنت العرب. وتبعاً لهذه الرواية، كافح قادة إسرائيل بلا هوادة من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للصراع بعد محنة 1948 المروعة، ولكن كل جهودهم تحطمت على صخرة التعنت العربي. أي أن قادة إسرائيل كانوا متلهفين على تحقيق السلام، ولكنهم لم يجدوا أذاناً صاغية من الجانب الآخر. هذا الحائط المنيع من العداء العربي لم يترك لهم أي خيار ولم يمنحهم أي سبيل للوصول إلى السلام. أما المؤرخون الإسرائيليون الجدد (أو أصحاب الصياغة الجديدة للتاريخ)، على الجانب الآخر، فيؤمنون بأن إسرائيل ما بعد الحرب كانت أكثر تعنتاً من الدول العربية، ولذلك فإنها تتحمل قدراً من المسئولية عن الجمود السياسي الذي تلي الانتهاء الرسمي لأعمال الحرب وتجئ في قلب الرؤية الجديدة للأحداث مقولة تعدد الخيارات، حيث توجد خيارات سياسية فعلية أمام إسرائيل فيما يتعلق بالعلاقات المستقبلية مع العرب. والسؤال الحقيقي الذي يواجه إسرائيل في تلك المرحلة الحرجة من تاريخها ليس هل السلام مع العرب ممكناً أن لا ولكن ما هو ثمن السلام.
إن الدلائل على صحة تفسير المؤرخين الجدد تأتي في الأساس من مصادر إسرائيلية رسمية. فملفات وزارة الخارجية الإسرائيلية، على سبيل المثال، تكتظ بالمستندات التي تدل على مبادرات السلام العربية واستعداد العرب للتفاوض مع إسرائيل منذ 1948 وحتى الآن. وكان الموضوعان الأساسيان في النزاع هما اللاجئون والحدود. وكل دولة من الدول العربية المجاورة كانت على استعداد للتفاوض المباشر مع إسرائيل والتفاهم حول الحدود. فيما يتعلق بالموضوع الجوهري الآخر، وهو موضوع اللاجئين، كان لدى الدول العربية منفردة حرية أقل في اتخذا القرار. فقد كان هناك موقف عربي موحد وواضح، يلزم كل أعضاء الجامعة العربية والموقف يتلخص في أن إسرائيل وحدها هي التي خلقت مشكلة اللاجئين ويجب عليها ألا تتملص من مسئوليتها في حل هذه المشكلة. ولذلك فإن الحل كان يجب أن يكون عبر قرارات الأمم المتحدة التي أعطت اللاجئون نفسهم حق الاختيار بين العودة إلى ديارهم أو الحصول على تعويضات عن ممتلكاتهم من إسرائيل. وقد سمح الموقف الموحد للدول العربية المنفردة أن تتعاون مع وكالة الأمم المتحدة للغوث والرعاية (UNRWA) لفلسطين والشرق الأوسط، ولكن على شرط ألا يفرط هذا التعاون في الحقوق الأساسية للاجئين. إن موقف إسرائيل من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين كان متناقضاً تماماً مع موقف الجامعة العربية. فقد زعمت إسرائيل أن العرب خلقوا المشكلة من خلال أبدأ بالحرب وأن إسرائيل غير مسئولة بأي شكل من الأشكال. ولذلك فإنها لم تقبل قرارات الأمم المتحدة التي أعطت اللاجئين حق العودة، أو حق التعويض. كانت إسرائيل مستعدة للتعاون مع الوكالات الدولية بحثاً عن حل لمشكلة اللاجئين، ولكن على شرط أن تتم إعادة توطين الغالبية العظمى منهم خارج حدودها وفي الحرب الدعائية المصاحبة للصراع، كرر المتحدثون بلسان إسرائيل اتهامهم للحكومات العربية بأنه لم تكن مهتمة بحل مشكلة اللاجئين، لكنها ترمي فقط إلى تحقيق مكاسب سياسية من وراء ذلك.
هذا الاتهام يحمل قدراً من الحقيقة، فبعد أن خسرت الحرب، استخدمت الحكومات العربية أي سلاح في متناول يدها لمواصلة الكفاح ضد إسرائيل، وكانت مشكلة اللاجئين بوجه خاص سلاحاً ماضياً لوضع إسرائيل في قفص الاتهام أمام محكمة الرأي العام العالمي. من ناحية أخرى، لم يكن الموقف الجماعي لجامعة الدول العربية قائماً على المكاسب السياسية ولكن كلن قائماً على المبدأ. وكل حكومة عربية كانت لديها سياستها الخاصة تجاه معيشة اللاجئين على أرضيها. فالحكومة الأردنية كانت تنتهج سياسة إعادة تأهيل اللاجئين على أراضيها وإعطائهم الجنسية الأردنية ودمجهم داخل الدولة. أما الحكومة المصرية، على النقيض، فلم تقدم الكثير لما يتراوح بين 200 ألف إلى 300 لاجئ كانوا يعيشون في قطاع غزة، ورفضت إعطاءهم الجنسية المصرية. ولكن لم تشعر أي حكومة عربية أنها تملك حرية المضي قدماً نحو عقد سلام شامل مع إسرائيل والإغفال الكامل لحقوق اللاجئين الفلسطينيين.
إن الموقف العربي الموحد إزاء مشكلة اللاجئين كان أحد عوائق عقد أي سلام مع إسرائيل، والرأي العام العربي كان عائقاً آخر. ومن المهم التمييز في هذا السياق بين الشعوب العربية والحكام العرب. فالبعض والعداء على المستوى تجاه الدولة اليهودية فاق الحدود بعد ضياع فلسطين والمرور بتجربة الهزيمة العسكرية الأليمة. أما الحكام العرب، على الجانب الآخر، فقد أظهروا مسلكاً نفعياً ملحوظاً في أعقاب هذه الأحداث. والواقع أنهم بعد أن استوعبوا تجربة الهزيمة العسكرية على أيدي الدولة اليهودية التي لم تشب عن الطوق، أصبحوا أكثر استعداداً للاعتراف بإسرائيل والتفاوض المباشر معها بل حتى إبرام معاهدة سلام. وكان كل حاكم من أولئك الحكام يمتلك الثمن الإقليمي المطلوب لصنع السلام مع إسرائيل، ولكنهم جميعاً رفضوا ذلك.
على الجانب الإسرائيلي، أدت القوة العسكرية إلى توسيع هامش الخيار السياسي. ونصل هنا إلى الشخصية المهيمنة على صنع القرار والمتمثلة في رئيس الوزراء، وذلك بحكم منصبه وحكم شخصيته. كان بن جوريون في السلم وفي الحرب على حد سواء قابضاً بقوة على عملية صياغة السياسة المتبعة. فهو لم يشجع النقاش في حزب ماباي ولا في الحكومة ذات الاختيارات السياسية المتعددة المتاحة لإسرائيل في نهاية حرب الاستقلال. كما أنه لم يرغب في عرض الاتجاهات المختلفة للآراء حول قضايا مصر والفلسطينيين والأردن. وقد نجح إلى حد بعيد في الحفاظ على احتكاره لصنع السياسة العليا في دائرة الدفاع والشئون الخارجية. وكان هو الذي يقوم في أغلب الأحوال بتحديد الاستراتيجيات الأساسية لإسرائيل والأولويات القومية في نهاية الحرب. وبينما وساعدت الصلاحيات التنظيمية التي يتمتع بها رئيس الوزراء بن جوريون على القبض بقوة على دفة توجيه السياسات المتعلقة بالعرب، فالحقيقة الأكثر أهمية تكمن في أنه كان ينتهج سياسة يتفق معه فيها معظم المنتمين للصفوة الإسرائيلية، وخصوصاً العسكريين.
كان بن جوريون يعتبر السلام مع العرب شيئاً مطلوباً، ولكنه لم يكن يمثل له أولوية أساسية في ذلك الوقت على وجه الخصوص. فقد كانت أولوياته الأولى هي بناء الدولة والهجرة الواسعة النطاق إلى إسرائيل والتنمية الاقتصادية وإرساء قواعد استقلال إسرائيل الحديث العهد. وكان يؤمن بأن اتفاقيات الهدنة تفي باحتياجات إسرائيل الأساسية من حيث الاعتراف الخارجي بها والأمن والاستقرار. وقد أدرك أنه من أجل الوصول إلى اتفاقيات سلام يعتمد عليه يجب على إسرائيل أن تدفع الثمن من خلال التنازل عن أراض لجيرانها ومن خلال الموافقة على عودة عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين، وهو لا يعتقد أن ما سوف يأخذه يساوي الثمن الذي سوف يدفعه. ومن حيث كون اختياره صحيحاً أم غير ذلك، فهذا ما تختلف بشأنه الآراء. وقد كان لديه خيار لا ينازعه فيه أحد.
وعلى ذلك فإن أحد العوامل الهامة التي ساهمت في فشل الانتقال من اتفاقيات الهدنة إلى اتفاقيات السلام كان عدم مرونة بن جوريون. كما أن السبب في عدم مرونته كان يكمن في اعتقاده أن الوقت في صالح إسرائيل. وفي يوم 29 مارس 1949 قام برشح وجهة نظره لمجلس الوزراء. وقد مهد لكلمته من خلال الإشارة إلى أن الفشل في التوصل إلى سلام رسمي مع العرب لا يجب النظر إليه على أنه كارثة كبرى: "فبالنسبة لكل القضايا الكبرى، الوقت يعمل لصالح إسرائيل: الحدود واللاجئون والقدس. ومع مرور الوقت، سوف يعتاد العالم على حدود إسرائيل الموجودة وينسى حدود الأمم المتحدة وفكرة الأمم المتحدة وعن الدولة الفلسطينية المستقلة. بالمثل، فيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين فإن موقف إسرائيل في تحسن مستمر بالرغم من الضغوط التي تمارسها الأمم المتحدة من أجل السماح لهم بالعودة. ونفس الشيء ينطبق على القدس، فالشعب قد بدأ الاعتياد على الوضع الحالي وبدأ يدرك مدى سخافة فكرة إقامة نظام عالمي على حين غرة لإدارة المدينة" وتطرق بن جوريون إلى موضوع المحادثات الثنائية قائلاً: "من الصواب ألا تمنعنا هذه الأشياء عن دفع عجلة السلام، لأن موضوع السلام مع العرب هو موضوع هام، كما أنه باهظ الثمن. ولكن عندما توضع العراقيل سوف نجني الثمار، كما ساعدنا المفتي في الماضي". ثم واصل بن جوريون حديثه قائلاً: "فقط في حالة مصر، يجب أن بذل جهود جادة لإقرار السلام. فهناك أسباب كثيرة تدعونا لذلك، منها عدم وجود تعارض موضوعي في المصالح بين مصر وإسرائيل، كما أن هناك صحراء كبيرة تفصل بينهما، ومصر هي الدولة الوحيدة في العالم العربي التي تعتبر دولة بحق، كما أنها ذات شعب له ثقله. إنها دولة كبيرة. فإذا استطعنا التوصل إلى إبرام سلام معها فربما يكون ذلك فتحاً هائلاً لنا".
يكشف ذلك بوضوح عن أنه حتى عندما تحدث بن جوريون عن السلام فإنه قد استخدم مصطلحاً عسكرياً وهو الفتح. على أي حال فإن خاتمة حديثه واضحة بما فيه الكفاية: "ولكن بشكل عام يجب علينا ألا نأسف كثيراً إذا رفض العرب السلام". أما موسى شاريت فقد كان أكثر التزاماً بالسعي الجاد للتوصل إلى سلام لأنه أدرك أن إسرائيل – على المدى البعيد – لن تستطيع أن تحيا في عزلة تامة، كما أنها لن تستطيع تجاهل المكاسب الاقتصادية المتعددة التي يمكن أن يأتي بها السلام وحده. وقد اتفق بن جوريون مع أبا إيبان، الذي كان يشغل منصب سفير إسرائيل في الولايات المتحدة ومندوبها بالأمم المتحدة في نفس الوقت، على أن اتفاقيات الهدنة كافية تماماً، وأن تعجل إسرائيل السلام يمكن أن يشجع العرب على توقع تقديمها تنازلات فيما يتعلق بالحدود واللاجئين، ولذلك قد يكون من الأفضل الانتظار بضع سنوات، لأنه سوف تكون هناك فرص سانحة دائماً للتباحث مع القادة العرب.
وفي لقاء مع كنيث بيلبي، مراسل صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون، لخص بن جوريون موقفه المتناقض بقوله: "إنني على استعداد تام للاستيقاظ في منتصف الليل لتوقيع اتفاقية سلام، ولكنني لست في عجلة من أمري وأستطيع الانتظار عشر سنوات. إننا لسنا واقعين تحت ضغط من أي نوع".
إن رد بن جوريون على مبادرات السلام العربية يجب النظر إليه على ضوء اقتناعه بأن موقف إسرائيل التفاوضي يمكن أن يتحسن مع مرور الوقت. وهذا هو سبب رفضه لمبادرة السلام التي تقدم بها مبعوث الملك فاروق في أواخر سبتمبر 1948 واقتراح سلام حسني الزعيم في ربيع 1949 فقد كان الزعيم تواقاً إلى حوار مباشر على مستوى القمة، ولكن لم تكن هناك أذن صاغية. رفض بن جوريون كل دعوات التفاوض، وفي النهاية تسرب الوقت من بين يديه. بالطبع لم تكن هناك وسيلة لمعرفة ماذا سوف يحدث لو استمر الزعيم فترة أطول في السلطة، ولكن أثناء فترة حكمه القصيرة، منح إسرائيل فرصة ثمينة للتخلي عن عدة الحرب وإرساء دعائم التعايش السلمي فعندما ترفض مبادراته بازدراء ولا توضع مقترحاته البناءة موضع الاعتبار وتضيع الفرصة السانحة لتحقيق إنجاز عظيم، فإن مسئولية ذلك لا تقع على عاتق الزعيم ولكنها تقع على عاتق إسرائيل. وهذه المسئولية يمكن أن تعود مباشرة إلى مدرسة كاملة للفكر، تلك المدرسة التي كان بن جوريون أقوى دعائمها، والتي كانت تؤمن بأن الوقت إلى جانب إسرائيل، وأن إسرائيل تستطيع المضي قدماً بلا سلام مع الدول العربية وبدون حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق