الثلاثاء، 15 سبتمبر 2009

التحالف ضد بابل

التحالف ضد بابل
تأليف: جون كولي
ترجمة ناصر عفيفي


الفصل الأول
ميراث بابل

" كنا في منطقة تبعد عن شط العرب مسافة قليلة جهة الشمال ورأينا بعض الأطلال في الصحراء. كان المكان قد نهب تماماً وكانت هناك حفراً في كل مكان. وجدت حجراً مخروطياً مليئاً بالنقوش وكذلك على تلك اللوحة التي دفنت في الرمال. أخبرنا المترجم فيما بعد أنها ترجع إلى عام 2000 قبل الميلاد وأنها جزء من معبد الملك. إنني أجهل تماماً علم الآثار فأنا رجل عسكري. كل ما عرفته أنها قديمة تماماً. كانت صفقة عظيمة تتمثل في العثور على هذه القطع الأثرية ولكنني في نفس الوقت كنت متكدراً قليلاً ، فنحن لا نزال في العراق ".

( توني ميريل ، الفرقة الخامسة مشاة البحرية الأمريكية ، العراق ، يونيو 2003 ) .
( نيويورك تايمز ، 16 يونيو ، 2003 )

كصبي صغير في الثلاثينيات نشأ في مونت فيرنون بنيويورك بالقرب من ضاحية برونكس ، كانت قصص التوراة ، بما فيها تلك التي تتحدث عن اليهود وأعدائهم الشرق أوسطيين ، لا تشكل اهتمامي الأكبر.

كان والداي يعملان بالصحافة وكانا مغرمان بنشرات الأخبار. وكنا منومين مغناطيسياً بسبب لعاصفة التي تتجمع في أوربا. وقد بدأ أدولف هتلر في ابتلاع جيران ألمانيا واحداً بعد الآخر.

وكان يسوق يهود ألمانيا وأوربا نحو مصيرهم المحتوم في محارق الإبادة الجماعية. كان والداي يحضران جلسات مدرسة الأحد الأسبوعية حتى بلغت الثانية عشرة.

وقصص التوراة التي كانت تروى في هذه الجلسات نادراً ما كانت تعلق بذاكرتي. ولكن الموسيقي والتراتيل الخاصة بألحان بول روبون والتي كان يعزفها أبي كانت مجرد بداية :

كان هناك ثلاثة فتيان من أرض إسرائيل شدرخ وميشح وعبد نغو.

في الأغنية ، قام نبوخذناصر، ملك بابل الشرير، بالاحتفاظ بصفوة الشعب اليهودي من يهوذا، أسرى في عاصمته وصنع تمثالاً من ذهب وأمر " الفتيان " ( الذين هم أمراء صغار من مملكة يهوذا ) :

يجب أن تخروا سجوداً وأن تعبدوا التمثال يا شدرخ وميشح وعبد نغو .

وعندما رفضوا أمره ، كما يخبرنا كتاب دانيال في العهد القديم ، " طرحوا داخل الأتون المستعمر ". ولكنهم لم يصبهم أي أذى ، كما يمكن أن يخبرك أي مسيحي أو يهودي مؤمن ، بعد أن حفظهم الله القدير.

و"خرجوا دون أن تؤذي النار أجسامهم ولم تحترق شعرة من روؤسهم ولم تعلق بهم رائحة النار". ( 3 دانيال : 11 – 25 ).

وفي دروس اللغة الإنجليزية ، قبل أن أنضم للخدمة العسكرية في أوربا المحتلة بعد الحرب 46 – 1947 ، كلفت بدراسة " التوراة كأدب حي ".

ذكريات غابرة

إن أمجاد وخطايا أشور وبابل وأسر يهود إسرائيل القديمة ويهوذا هي بمثابة تاريخ حي للباحثين اليهود والأصوليين والمسيحيين والمدافعين عنهم الذين يلعبون دوراً هاماً في منظومة الدعم الأيديولوجي والعاطفي في الولايات المتحدة.

فلكل مائة أمريكي يحارب في العراق منذ عام 2003 هناك غالباً عدد مساو أو يزيد من المسيحيين الموالين للصهيونية من أمثال بات روزنبرج وأعضاء الكونجرس الأمريكي من أمثال العضو الجمهوري توم ديلاي عن تكساس، وبالطبع الرئيس جورج بوش الذي نظر إلى الحرب على الإرهاب باعتبارها صراع بين الخير والشر.

وبالنسبة لكل من يحاول سبر أغوار الشرق الأوسط يصبح دائماً من الخطأ الفادح تجاهل التاريخ القديم. فالأسباب الداعية إلى وجود أشد أنصار إسرائيل تعصباً في الولايات المتحدة ، بما فيهم بعض مستشاري جورج بوش المقربين ، هي أن حلفاء الساسة والجنرالات اليمنيين والمتدينين في إسرائيل اليوم موجودين في هذه القصص الغابرة.

وهم ينطلقون من أعماق قصص التوراة والتاريخ والأساطير ، وخاصة دراما الإسرائيليات القديمة وأباطرة الشرق ، من الملك حامورابي ملك بابل إلى الإسكندر الأكبر الذي فتح العالم ثم توفى في بابل عام 323 قبل الميلاد. وطوال قرنين من الزمان عاش الكثير من فتيان إسرائيل في الأسر البابلي وعادوا إلى فلسطين تحت قيادة النبيين عذرا ونحميا.

وقام بعض مؤيدي إسرائيل وبعض الإسرائيليين المولودين في العراق بادعاء ملكيتهم لممتلكات اليهود العراقيين المهاجرين المنهوبة في العراق الحديثة. وهذه الدعاوى تعود إلى سنوات حكم صدام حسين المستبد. ، ولكنها أيضاً تعود إلى حكام العراق السابقين حتى قبل إنشاء إسرائيل عام 1948. والدراسة الإحيائية للعراق وبابل وبغداد في التاريخ القديم وخاصة التاريخ اليهودي تساهم في شرح وفهم مغالق الصراع على مستقبل العراق.

وبلاد ما بين النهرين القديمة أو بلاد الرافدين ( ميزوبوتاميا ) تظهر في قصص التوراة المثيرة للدهشة وفي روايات المؤرخين بدءً من هيروديت باعتبارها " مهد " الحضارة. ومنذ الأزمنة القديمة ، سواء وافقت على نظريات التطور التاريخي الأرثوذكسي ، أو " الخلق " الذي أحياه بعض المسيحيين الأصوليين المتحمسين أم لا ، فإن بلاد ما بين النهرين ارتبطت على نحو وثيق باليهود واليهودية. وتبعاً لسفر التكوين ، أول كتب العهد القديم ، فإن جنة عدن كانت توجد بالقرب من الجرف الذي انفصل ليكون ما أصبح يعرف اليوم بنهري دجلة والفرات.

وقام السومريون القدامى ، وخاصة في ملحمة جلجامش، بإبداع قصص الخلق الخاصة بهم. فقد تحدثوا عن الطوفان العظيم مقارنة بقصص التكوين في طوفان الكتاب المقدس ونوح وفلكه. وأسطورة الخلق السومرية هذه تمثل أحداث طبيعية ليست نتاج أمر إلهي ولكنها نتيجة للصراع بين الآلهة. وقد نجا نوح القاطن في مدينة سومر والذي أطلق عليه اسم أوتابشتيم من الطوفان العظيم من خلال قوته البدنية وليس بسبب فضائله الأخلاقية كما جاء في التوراة.

بدأت الصراعات بين اليهود وأعدائهم في عهد التوراة. فقد تحدت جيوش الإمبراطورية الآشورية سلطة السوريين من خلال الزحف انطلاقاً من بلاد ما بين النهرين على فلسطين. ومنذ عام 950 قبل الميلاد والسوريون يتحركون داخل الأراضي الآشورية في الشرق، بينما يحاربون في الجنوب والغرب مملكة إسرائيل. ونحت سوريا وإسرائيل العداوة جانباً من أجل صد الخطر الآشوري. ومعاً قاما بمواجهة الآشوريين وهزموهم في معركة " قارقار " بسوريا. وسرعان ما تحول الحليفان المؤقتان إلى قتال بعضهما البعض.

أسرى بابل

في عام 841 قبل الميلاد استأنف الآشوريون عداونهم مرة أخرى. وهذه المرة اختار ملك إسرائيل يهوا إخضاع سوريا بدلاً من التحالف معها والتي صمدت في وجه هجمات الآشوريين لمدة أربع سنوات. وبعد ذلك شن الملك الآشوري المحارب تغلث فلاسر الثالث ( 752 – 742 ) الحرب ضد الملك مناحيم. وقد حاول السوريون ، بلا جدوى تجديد لتحالف القديم مع إسرائيل. بدلاً من ذلك ، قام الملك أحاز ملك يهوذا ( 732 – 716 قبل الميلاد ) بطلب مساعدة الآشوريين. وقام تغلث فلاسر بالهجوم على السوريين وحصار دمشق ، عاصمتهم واستولى عليها عام 732 قبل الميلاد. ثم تحول إلى إسرائيل ومنع تقديم المزيد من الدعم إلى السوريين وسبى الإسرائيليين ونقلهم إلى أشور ( كتاب الملوك الثاني 15 : 29 ).

وحينما توفى تغلث فلاسر ، توقف اليهود عن دفع الجزية إلى الآشوريين وتحالفوا سراً مع مصر. وقامت أشور ، رداً على ذلك ، بحصار السامرة حصاراً طويلاً والاستيلاء عليها في النهاية. وتم أسر العشرة أسباط الشمالية الباقية في إسرائيل إلى أشور وانهارت مملكتهم. وأطلق أنبياء اليهود على ذلك انتقام الرب من وثنية إسرائيل ونقضهم لعهود الله ( عاموس 5 : 1 – 15 ). ولا يسجل التاريخ أن الأسباط العشرة المفقودة لإسرائيل قد عادوا أبداً إلى الوطن.

وهدد حكام أشور العدوانيون والمحاربون بالتخلص من النفوذ المصري في سوريا وفلسطين. وقام أخزيا ملك يهوذا ( 716 – 686 قبل الميلاد ) بتأليب مصر وسوريا ، الأعداء بالفعل ، ضد بعضهما البعض ووقفت يهوذا على الحياد.
وفي عام 701 قبل الميلاد قام الجيش الآشوري بقيادة الملك سيناشريب ، وهو ملك شرير أخر من بلاد الرافدين بغزو أورشليم. ومع ذلك فإن الهيمنة العسكرية الآشورية بدأت في الانحسار. وانتزعت بابل حريتها من الاستبداد الآشوري. وبدءً من عام 626 قبل الميلاد شنت بابل المستقلة الجديدة سلسلة من المعارك أدت إلى الانهيار الكامل لما كان يعرف باسم الإمبراطورية الآشورية.

وفي ذلك الوقت قام نيخو ، فرعون مصر ، بالتدخل محاولاً حماية ممتلكاته من خلال التحالف مع فلول جيوش أشور. وأدى ذلك إلى لفت انتباه البابليين الذين هزموا المصريين في معركة كاركميش عام 605 قبل الميلاد. كانت يهوذا خاضعة في ذلك الوقت وكان عليها أن تدفع الجزية ولكن قام ملكها ياهوياكيم بالتمرد فيما بعد. وفي عام 597 قبل الميلاد قامت الجيوش البابلية والكلدانية بقهر المدافعين عن القدس وقامت بأسر 3023 يهودي وأخذتهم إلى بابل. وكان ذلك أول أسر جماعي لليهود من ثلاثة. وكان الثاني عام 587 قبل الميلاد والثالث عام 581 الذين أشتمل على 832 و 745 أسير على التوالي ( أرميا 52 : 29 – 30 ). كانت هذه هي النهاية المحتومة لمملكة يهوذا.

إن إحدى النقاط التي يركز عليها باحثو التاريخ القديم اليوم، أياً كانت معتقداتهم، والتي يبدوا أنهم يتفقون جميعاً عليها، هي قوة وثراء الملك نبوخذناصر الثاني ( 604 – 562 قبل الميلاد ). وقد احتفظ بالأسرى اليهود واستخدم رهائنه من أجل تضخيم وتوسيع حجم وثراء بابل طوال سبعين عاماً من الأسر .

وقبل نحو ثمانين عاماً من صدور أمر صدام حسين بإعادة بناء قصر نبوخذناصر في بابل وذلك كرمز للأنا المتضخمة، قام إمبراطور السينما الصامتة في هوليود دي. دبليو. جريفث عام 1916 بتصوير بابل على أنها تجسيد لكل الشرور في العقل الأمريكي وذلك من خلال رائعته الكلاسيكية " لا تسامح " .

ويبين الفيلم إعادة بناء بابل على نحو بالغ البذخ والإسراف على مدى 178 دقيقة في النسخة الأكثر انتشاراً. وقد شوهد على نحو موسع في كل أنحاء أمريكا والعالم بنسخ مختلفة استغرق زمن عرض بعضها 208 دقيقة. وقد لعبت ليليان جيش وروبرت هارون وماي وكوكبة من نجوم السينما الصامتة أربعة قصص متشابكة للظلم واللاإنسانية ( وهي موضوعات تطورت إلى حد ما بواسطة جريفث عام 1915 في ملحمته العنصرية للحرب الأهلية بعنوان " مولد أمة " ). واستمرت القصص منذ حقبة بابل وحتى الحرب العالمية الأولى.

إعادة بناء بابل

كان أحد الأحلام التي تداعب مخيلة صدام حسين ، خلال فترة حكمه الاستبدادي الذي استمر ربع قرن ، إعادة بناء بابل كما كانت في ذروة مجدها خلال 2500 عاماً من التاريخ البابلي. كانت رؤية صدام تشبه بعض صور هوليود التي عرضها جريفث.

كان ما في ذهن صدام مختلفاً في مجمله عن بابل حمورابي القديمة ( 1792 – 1750 قبل الميلاد ) والذي وضع قانوناً تفصيلياً يحكم البشر. ولكنها بابل نبوخذناصر الثاني حيث اتسعت إمبراطورية بابل لتبتلع منطقة غرب آسيا. وقد استمرت فقط لمدة أربعين عاماُ خلال سبعين عاماً لنبوءة إشعيا عندما قامت بابل بالاحتفاظ باليهود الأسرى القادمين من فلسطين. وقد استخدم نبوخذناصر عقولهم وأجسادهم لبناء معابد بابل ومبانيها العظيمة ومنشآتها التي تزخر بالأبهة والمجد. كان ذلك هو الازدهار الأخير لذروة الحضارة البابلية.

وقد انتهت بمجيء الإمبراطور سيروس إمبراطور فارس في عام 539 قبل الميلاد. وقد استمر الاحتلال الفارسي خلال أسرة ملكية فارسية أخرى هي أسرة أخمنيدس حتى استولى الإسكندر الأكبر على المدينة عام 331 قبل الميلاد.

وفي أحد الأيام في منتصف الثمانينيات ، صدرت الأوامر إلى دوني جورج ، الأمين المساعد لمتحف بغداد للأثار ( الذي تم نهب كنوزه بعد فترة قصيرة من دخول الجيش الأمريكي إلى بغداد في إبريل 2003 ) ، للاستعداد لزيارة موع بابل القديمة. وقام صدام حسين وطغاته من الحرس بالتوجيه إلى أطلال المدينة وأمره بإعادة بناء أحد قصور نبوخذناصر الثلاثة وذلك في أول مهرجان فنون بابل عام 1987.

وقام جورج بجولة بمصاحبة الديكتاتور ، كرهاً لا طواعية ، أرشده فيها إلى أطلال القصور. وسأله صدام كيف علم بوقت بناء القصور الأصلية فأراه جورج قطعة أصلية من قرميد القرمين المستخدم في البناء. وكان يوجد على القطعة اسم نبوخذناصر الثاني وتاريخ البناء محفوراً بالحظ المسماري في عام 605 قبل الميلاد. ( وهذه القرميدات تم العثور عليها بواسطة القوات الأمريكية والبريطانية المحتلة في عام 2003 كما عثر عليها من قبل الكثير من المستكشفين وعلماء الآثار حيث كانت قصور ومعابد نبوخذناصر المشيدة للإله البابلي مردوخ).

وأمر صدام دوني جورج بأنه عند إعادة بناء قصر نبوخذناصر فإن " اسم صدام حسين وتاريخ البناء يجب أن يظهرا بنقش مشابه على القرميدات الجديدة ". وكان أمرا خطيراً ، وحتى مميتاً ، أن يقوم بإبداء أي اعتراض على ما أراده صدام ، كما أشار إلى العاملين معه الذين استبد بهم القلق. ولكن العديد من علماء الآثار خارج العراق اعترضوا بقوة على ما اعتبروه " مدينة ملاهي الطاغية " حسب وصف نيل ماكفاركور بجريدة النيويورك تايمز.

كان اقتراح صدام ينتهك مبدأ مقدساً من مبادئ العلم ألا وهو عدم إعادة بناء الآثار القديمة ولكن القيام بالحفاظ عليها كما هي.

وقد ذاع أمر المشروع في كل أنحاء العراق وفي أماكن أخرى من العالم العربي وخاصة في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى التي كانت تتلقى رشاوى مستمرة من حصيلة مسروقات صدام. وأشادت وسائل الإعلام بأوامر صدام المجيدة لإحياء أمجاد الحضارة البالية والآشورية في العراق المعاصر. وقد واصلت فرق العمل الليل بالنهار في ثلاث نوبتجيات من أجل تنفيذ النسخة التي أرادها صدام بتكلفة بلغت 5 مليون دولار. فإذا قمت بزيارة بابل قبل حرب 2003 ونظرت إلى وحدات طوب الحوائط سوف تقرأ ما يلي على الكثير منها :

" في عهد القائد المنتصر صدام حسين ، رئيس الجمهورية ، حفظه الله ، حامي حمى العراق وباعث نهضته وباني حضارته العظيمة ، تمت إعادة بناء مدينة بابل العظيمة في عام 1987 ". وفي الأسفل ، يظهر اسم نبوخذناصر الذي يربط بين الاثنين ( أو هكذا تخيل صدام حسين بذاته المريضة ). كان القصر لا يزال تحت البناء في يوم قائظ من أيام عام 1987 حينما قام المؤلف بالقدوم من بغداد في ظل القصف الجوي الإيراني.( انتهت الحرب الإيرانية – العراقية ، التي بدأها صدام من خلال غزو إيران في عهد أية الله الخميني ، عام 1988 ).

وأثناء سيري على الطريق الرئيسي القادم من بغداد ، لم أر سوى المتاريس والاستحكامات. وتحت لهيب الشمس المحرقة ، كان يجري الحفر على قدم وساق تمهيداً لإعادة البناء. وفجأة شاهدت طرق بابل المنخفضة العميقة حيث كانت توجد كل المباني الرئيسية في الأزمة القديمة. ويبين المتحف الموجود بالموقع أن الأسوار كانت عالية ومزينة على نحو جميل. وعند المدخل الرئيسي ، كانت هناك نسخة مصغرة من بوابة عشتار مغطاة بالقرميد المطلي بالجليز ومزخرفة بأشكال ثيران وأسود. ( قام علماء الآثار الألمان بنقل الكثير من القطع الأصلية إلى برلين بعد عام 1914 ، ويجب عليك القيام برحلة إلى متحف برجماون في برلين لرؤيتها اليوم ). والثيران والأسود تم وضعها بدلاً من الأسود والوحوش التي تشبه التنين على الواجهة.

وقد كشفت الحفريات التي قامت بها بعثة الآثار الألمانية من عام 1899 إلى عام 1917 على مساحة قدرها 2100 أكر في المدينة القديمة عن وجود الكثير من أطلال الحقبة الأخيرة ( بابل الجديدة ) . وإلى جانب بوابة عشتار ، قام الألمان بالتنقيب عن معابد بابل بما فيها إيساجيلا أو معبد مردوخ ، الإله الأعظم الذي كانوا يعبدونه ، والبرج الذي يعتقد بعض الباحثين أنه البرج التوراتي لبابل.

وكشفت الحفريات أيضاً عن أطلال المنازل القديمة. وفي شمال شرق بابل وجدوا مسرحاً ، بني غالباً في عهد الإسكندر الأكبر وتم تجديده في عصر ملوك فارس. وقامت هيئة آثار صدام حسين بترميم أو إعادة بناء أجزاء رئيسية من هذه المواقع إلى جانب قصر نبوخذناصر.

ومنذ الحرب والاحتلال في ربيع وصيف عام 2003 ، كانت القطع الوحيدة التي بقيت في المتحف في موقع بابل عبارة عن جزأين كبيرين مما بدأ أنه الأسوار الأصلية. وقام طاقم العاملين مع دوني جورج ، حينما لموا نهب متحف بغداد ، بنقل الألواح الطينية الأثرية إلى غرف محصنة وآمنة في بغداد للحفاظ عليها بعيداً عن أيدي اللصوص.

وعلى مدى القرون ، كان اللصوص يعملون من خلال مدينة الهلال المجاورة التي تم بناءها بواسطة القرميد المنهوب من أطلال بابل في العصور الوسطي. وبدءً من صيف عام 2003 فصاعداً ، كانت ساحة للكمائن القاتلة المنصوبة للقوات الأمريكية.




أم كل البغايا

قدم كل من المؤرخين المتدينين والعلمانيين الوقود اللازم للجدل الدائر بين المسيحيين الأمريكيين الجدد وغيرهم مثل الرئيس جورج بوش بشأن عراق صدام حسين كبقعة لصناعة الشر. وهناك ، مساندة واسعة من العهد القديم لرؤية بابل ، على وجه الخصوص ، كمركز للشرور والفساد والظلام.

فتبعاً لأحد التعليقات عن تاريخ بابل والتي تم تداولها مع تجمع سحب حرب عام 2003 في الأفق " كل الأنظمة الكاذبة للدين بدأت في أرض بابل وحققت اكتمالها عبر روح بابل في الأيام الأخيرة ". كما يشير التعليق إلى كيفية قيام "الرب بتدمير برج بابل ومعاقبة استكبار الناس من خلال خلق تشوش اللغات المختلفة واختلاف الأعراق".

ويشير أحد الباحثين الألمان إلى السمعة السيئة لبابل بين اليهود باعتبارها " دولة معادية للرب " نظر إليها الكثير من المسيحيين باعتبارها " أم كل البغايا " والشرور والآثام على الأرض. واعتبرت حقبة برج بابل ( سفر التكوين 11 : 1 - 9 ) مصدراً لتشوش اللغات وتشتت الناس حول العالم.

قام المؤرخون والرحالة برسم صور متنوعة ومتناقضة أحياناً لما حدث لبابل. ويبدو سقوطها ناجماً عن تدهور تدريجي ، وليس تدمير مفاجئ بسبب انتقام الرب. وعلى أي حال ، يبدو انحلال المدينة ، تبعاً للباحثين الإنجيلين والأصوليين ، قد جاء تحقيقاً لنبوءات أسفار العهد القديم إشعياء وإرميا. وقد اعتبروا ذلك عقاباً إلهياً للبابليين بسبب تدميرهم أورشليم وطرد مواطني يهوذا.

ويصف الرحالة الإغريق ، بدءً من هيرودوت " أبو التاريخ " ( 484 – 425 ) ، بابل باعتبارها عاصمة مترامية الأطراف ذات أسوار تمتد لمسافة 60 ميلاً. ومع ذلك في عصر الرومان ، كانت بابل تختفي تدريجياً من الخرائط وتتلاشى من الذاكرة.

ومع سقوط الإمبراطورية الرومانية وانسحاب جيوشها من الشرق الأوسط ، تحطمت أسوار بابل وسقطت أيضاً. وأدى الإشارة إلى مجدها القديم إلى التأكيد على أن المسيحية، الدين الجديد والشرعي لروما وبيزنطة ، قد ربحت المعركة. كانت بابل رمزاً لخطايا الإنسان وانتقام الرب ، كما حدث في سدوم وعمورة.

وكتبت أرملة عالم الآثار كلودياس ريتش ، أول من قام في العصر الحديث بدراسة موقع بابل ، كتبت تقول أن " الرب لم يتحدث عن بابل إلا بكل سخط ". ونظر الآباء المسيحيون الأول إليها على أنها رمزاً للفساد. وقد استخدموا لفظ بابل كدلالة على روما الوثنية ، عدو الكنيسة وذلك حتى حكم قسطنطن ( 306 – 337 ميلادية ). وبحلول القرنين الحادي عشر والثاني عشر ، حينما بدأت الحملات الصليبية حربها ضد هيمنة العقيدة الجديدة، الإسلام، في بداية العصور الوسطي ، بدأت بابل التحول نحو المسيحية وذلك تحت تهديد جيوش المسلمين.

المنفيون اليهود

كان مئات الألوف من اليهود لا يزالون يعيشون في ظل أطلال الإمبراطورية الفارسية. وأشتمل ذلك على ذرية أولئك الذين اختاروا البقاء في بابل بعد انتهاء الأسر وغادرهم من اختاروا العودة إلى فلسطين.

وبعد أن أدى الفتح العربي إلى القضاء على الدولة الفارسية ، تمتع اليهود فيما كان يطلق عليها بابل القديمة ، والذين تعرض مجتمعهم للقلاقل الاجتماعية في ظل الحكم الفارسي ، تمتعوا بالاستقرار في ظل حكم الحلفاء الراشدين عمر وعلي.
وتسجل المؤرخات اليهودية أن الحكام العرب الجدد ، في ظل إتباعهم لأوامر النبي محمد التي تنهي عن التدخل في حياة اليهود والمسيحيين ( أهل الكتاب )، شجعوا التجديد والنهضة الثقافية بين اليهود والمسيحيين الذين كان يجب احترامهم. وفي ظل التعايش السلمي بين البيروقراطية الإسلامية والمؤسسات غير المسلمة المستقلة ، أصبح اليهود قادرون على إعادة بناء نظام الحكم الذاتي القديم.

وكان رئيس الجزء العلماني من الإدارة اليهودية المستقلة يدعى عميد المنفى. وهذا المنصب قد نشأ في ظل الهيمنة القديمة للفرتيون والساسانيون. وكان يفترض أن يكون عميد المنفيين منحدراً من نسل الملك داوود ملك إسرائيل ( 1000 – 961 قبل الميلاد ) وكان يتم توريث هذا المنصب لأبنائه. وكان أحد هؤلاء العمداء الذين اشتهر اسمهم في التاريخ اليهودي يدعى بستاني. وقد ورث منصبه إلى أبنائه من زوجته اليهودية وقام الكثير من اليهود بالزواج من الفرس والإغريق المقدونيين في زمن الإسكندر الأكبر. وقام الممثلون المنتخبون والوارثين لمناصبهم ليهود العراق بإدارة الضرائب المجنية من اليهود أمام الحكام المسلمين. وقد كانوا مكلفين بوظائف قضائية واجتماعية معينة لإدارة اليشيفوت ، المجتمع اليهودي في المنفى.

وخلال ازدهار الحضارة والرخاء في بغداد في القرن الثاني عشر، شهدت العاصمة الجديدة لبلاد الرافدين اتساعاً ضاهى بابل في الحجم والحداثة ، حيث قام أحد الرحالة اليهود من أسبانيا ، ويدعى بنيامين بن تودلا، بزيارة المدينة في عام 1168 ميلادية. وفي مذكراته يصف " الشرف والحظوة " التي كان يتمتع بها العميد اليهودي دانيال بن حاسداي ( 1150 – 74 ميلادية ) في بلاط الخليفة. ففي كل خميس كان يجتمع لدى الخليفة مشاهير الدولة وكان من بينهم زعماء المجتمعين المسلم واليهودي. وكان عميد الطائفة اليهودية يجلس إلى جانب الخليفة بينما لم يكن يستطيع شرفاء المسلمين الجلوس في حضرة الخليفة. ويكتب رحالة يهودي أخر ، بتاحيا من روجنسبرج، عن مديري المجتمع اليهودي في الموصل، شمال العراق ( المدينة التي يختلط فيها العرب والأكراد والتركمان من الطوائف المسلمة والمسيحية، كما اكتشف المحتلون الأمريكيون للمدينة عام 2003، ولكن دون وجود لليهود ) الذين كانوا يعاقبون الخارجين على القانون حتى لو كانت القضية تضم مسلمين. وكانت تحتوي الموصل على سجن خاص بها.

ومنذ منتصف القرن الثالث عشر ميلادية كان العراق، لمدة قرن تقريباً ، ساحة قتال بين السلاطين العثمانيين وملوك الفرس. وقد استمر ذلك على نحو متقطع حتى عام 1638 حيث قام العثمانيون في النهاية بضم بغداد وباقي العراق إلى إمبراطوريتهم. ومع ذلك، فقد تمتع الباشاوات في بغداد والموصل بالمزيد من الاستقلال عن المناطق الأخرى في العراق.

كان على المجتمعات اليهودية والمسيحية والأقليات الأخرى أن تعتاد على المعيشة في أماكن منعزلة. لقد كانت بغداد في يوم من الأيام مركزاً للثقافة والتجارة والتحضر، ولكنها الآن أنهكتها الحروب وعزلت عن الطرق الرئيسية للتجارة العالمية. وقام زائر يهودي من اليمن، زار بغداد بعد عام 1550، بالإشارة إلى الأضرحة الشهيرة في العراق لحزقيال وعزرا.

ترميم المذبح

في بدايات أغسطس 2003، بينما كان هناك العديد من البقاع التاريخية القديمة في العراق تتعرض للنهب والسلب، قامت كيت سيلي، ابنة الدبلوماسي الأمريكي السابق تالكوت سيلي، ومراسلة الإذاعة الوطنية الأمريكية، بالكشف عن مذبح يهودي قديم جنوب بغداد. ويعتقد أنه ضريح النبي حزقيال. وقد عثرت على المذبح ومعبده بالقرب من قرية الكفل بواسطة أفراد من قبيلة بني حسن المسلمة. وكان أفراد القبيلة يحرسون الموقع منذ رحيل الجالية اليهودية الصغيرة عام 1948 بعد إقامة إسرائيل.

أعجبت سيلي بالمشهد الرائع المحيط بالمكان حيث كانت أشجار النخيل تصطف على شاطئي نهر الفرات والتي قد يعود تاريخها إلى آلاف السنين. وكان من الواضح أن الكفل ضاحية من ضواحي بابل القديمة على بعد 20 ميلاً شمالاً. وفي عهد الملك نبوخذناصر، كانت تأوى الكثير من اليهود الذين تم نفيهم إلى بابل من أورشليم في القرن السادس قبل الميلاد.

ويقال بأن حزقيال عاش ودفن في الكفل بعد أن قام بإحياء الطقوس اليهودية بعد النفي البابلي. وقد تم تشييد هذا المعبد بعد وفاته. وقد شاهدت سيلي، من خلال إرشاد شيخ القبيلة وعمدة القرية الشيخ أحمد حبيب كتابات عبرية على الحوائط. وفي إحدى الغرف العلوية أخبرها العمدة بأنه يعتقد أن اليهود كتبوا فيها التلمود اليهودي. كما أضاف أن الغرفة كانت تحتوي على مكتبة تضم نصوص عبرية قديمة، حتى أمر صدام حسين بنقلها إلى بغداد في أواخر السبعينات. وتحتوي النقوش العبرية على مذبح خشبي ومقبرة حجرية منخفضة يقال أنها لحزقيال. وفوق سطح المقبرة يوجد الكثير من أوراق النقد من العراق وإيران وباكستان تركها العديد من الزوار المسلمين عبر السنين. وقد أخبرها الدليل كيف يبجل المسلمون حزقيل باعتباره أحد رسل الله. وعندما قام حوالي ثلاثون يهودياً كانوا يعيشون في الكفل في الثلاثينات والأربعينيات بالرحيل، قام والده بإتباع تعاليم القرآن لحراسة الأماكن المقدسة لأهل الكتاب. وقام نظام صدام باضطهاد والده بسبب حراسته للمذبح اليهودي وقام بإعدامه في الثمانينيات.

وصف مايكل جفوللر، أحد المسئولين المدنيين لسلطة الاحتلال الأمريكي للعراق، قبيلة بني حسن بأنها " مذهلة في نبلها ".

وأضاف أن المذبح هو رمز للتعايش بين المسلمين واليهود و" أحد أهم المواقع التاريخية اليهودية في الشرق الأوسط. وكان هناك دائماً معبداً يهودياً وذلك خلال الألفين وستمائة عام الأخيرة. وفي عام 1948، كان على الأرجح أحد أقدم المعابد في العالم ".

وقال جفوللر أنه كان يشجع الخبراء الدوليين على دراسة والحفاظ على الموقع. وقد أعلن العمدة موافقته على ذلك. وهو يستطيع أن يتخيل الوقت الذي يتم فيه ازدهار القرية بسبب السياحة إلى الموقع والوقت الذي يتم فيه الترحيب بيهود القرية مرة أخرى.

كان هناك باحثين يهود عراقيين في القرن السادس عشر وبعد ذلك. وقد دفع ذلك المجتمع اليهودي العراقي إلى إحالة المسائل الخاصة بالموضوعات الدينية إلى الحاخامات في حلب بسوريا. وقد انتقل بعض باحثي حلب إلى بغداد واستقروا هناك.

ومع ذلك، بينما كان اليهود العراقيون يستوردون الباحثين، فإنهم مع حلول أواخر القرن الثامن عشر كانوا يصدرون التجار اليهود في بغداد والبصرة. وقد هاجر الكثير منهم إلى الهند. ومع إحكام سيطرة البريطانيين هناك تجمعت مستعمرة يهودية يحميها البريطانيون في سورات بالهند. ومع حلول أوائل القرن التاسع عشر، كان التجار اليهود ينتقلون إلى كالكتا وبومباي وبوتا. وكان من أبرز مؤسسي هذه التجمعات ساسون كلان، القادم من بغداد.

ساهم أعضاء هذه الجماعة المثقفين في التنمية الدينية والحضارية للمجتمعات اليهودية في الهند. وقد أقام التجار علاقات وثيقة مع تجار الشرق الأقصى ومع لندن، العاصمة التجارية والسياسية الصاعدة للإمبراطورية البريطانية. وتوطدت العلاقات الوثيقة في الهند بين يهود بغداد وعمالقة التجارة مثل شركة شرق الهند البريطانية التي كانت تمارس سلطات أشبه بسلطات الحكومة. وهذه العلاقات كان يمكن أن تؤثر على العلاقات والعقود داخل العراق نفسها في ظل الانتداب البريطاني في القرن الثاني عشر، بعد الحرب العالمية الأولى.

" إفشاء السلام في المدينة "

ازدهرت الحياة اليهودية في العراق حتى القرنين التاسع عشر والعشرين كما لم يحدث في أي مكان أخر للشتات اليهودي. وفي الكتاب المقدس قام النبي إرميا، بعد الاحتلال البابلي الأول لأورشليم عام 597 قبل الميلاد وبعد نفي أفراد الطبقات العليا بالمدينة إلى بابل، قام بإرسال خطاب إلى المنفيين. ونصحهم بأن يسكنوا في وطنهم الجديد وأن يقوموا " ببناء منازلهم والإقامة فيها وأن يزرعوا الحدائق ويأكلون منها الفاكهة ". وقد أمرهم بأن يتخذوا الزوجات وينجبون الصبيان والبنات وأن يزوجوا أبنائهم وبناتهم من أجل أن ينجبوا الفتيان والفتيات وأن يزيدوا ولا يقلوا. وأن يفشوا السلام في المدينة".

وقد مثلت تعاليم إرميا نظرية سياسة للحياة اليهودية في العراق، بما في ذلك العمل على تحسين المجتمع من حولهم. وقد التزم اليهود في العراق بهذه المبادئ خلال قرون الحكم الفارسي والعربي والعثماني التركي بعد سقوط بابل. وخلال هذه القرون العشرين، لم توجد دولة عراقية مستقلة. وقد حكم الأتراك العثمانيون، بدءً من القرن السابع عشر الميلادي، كل مجتمع مستقل في بلاد الرافدين بطريقة مختلفة. وفضلوا المسلمين العرب السنة والمسيحيين واليهود على الفرس الشيعة لأن الإمبراطورية الفارسية كانت تمثل تهديداً دينياً وسياسياً للحكام العثمانيين في القسطنطينية.

ولكن منذ القرن الثاني عشر الميلادي، حينما أشار بنيامين بن تودلا إلى وجود 40 ألف يهودي في بغداد، يمارسون الطقوس الدينية في 28 معبداً و يتمتعون بالحظوة لدى الخليفة، بدأت الأمور في التغير. وقد تدهور الحال باليهود العراقيين تدريجياً. وبعد عام 1500 لجأ اليهود العراقيون إلى العثمانيين المسلمين السنة لحمايتهم من الضغط المتزايد للإسلام الشيعي في الدولة الفارسية المجاورة. وقد احتفلوا بالانتصار العثماني عام 1678 على الفرس في موقع " يوم نيس " أو " يوم المعجزة ". ولكن تزايدت الهجرة اليهودية إلى الهند تدريجياً وتناقص عدد اليهود العراقيين.

وبحلول عام 1850، وتبعاً لإحصاءات الجمعية اليهودية الأمريكية، كان يسكن بغداد حوالي 300 يهودي فقط. في عام 1853 قاموا بالانضمام إلى الأغلبية العربية السنية للقتال ضد المتمردين الأكراد في شمال العراق.

اضمحلال النفوذ العثماني

ابتليت الهيمنة العثمانية في بلاد الرافدين بالكثير من الحوادث غير السارة في القرن التاسع عشر. ففي عام 1831 أدى انتشار وباء الطاعون إلى قتل 3000 شخص يومياً ولمدة أسابيع في بغداد. وكان نهر دجلة خلال الفيضان يجتاح شوارع بغداد. وأدى إلى إذابة المئات من المنازل والمساجد والمباني العامة المصنوعة من الطين. وكان اختراع التلغراف والسفن النهرية في نهر دجلة وافتتاح قناة السويس عام 1869، التي ربطت أوروبا بالمستعمرات العثمانية في الشرق الأوسط والأقصى، قد جاء بعد فوات الأوان لمساعدة الحكام العثمانيين على إحكام قبضتهم الضعيفة على مناطق الرافدين.

ومع ذلك، مع تراجع النفوذ السياسي العثماني، زادت ثروة ونفوذ التجار المسلمين والمسيحيين واليهود. وخلال هذه الحقبة من النمو غالباً زرعت بذور العداء بين الصهاينة، الذين جاءوا من العالم الغربي وخططوا وتأمروا لإقامة وطن قومي يهودي، وورثه يهود بابل الذين لم يهتموا كثيراً بالهجرة إلى فلسطين أو إلى أي مكان آخر.

وبدأ التجار اليهود في أواخر القرن التاسع عشر في الحصول على نصيب في الأجهزة الإدارية العثمانية التي نشأت في سبعينيات القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فقد كانوا غير قادرين على وضع سياسة معنية في الأمور المحلية الجوهرية مثل الضرائب أو الأشغال العامة أو الأنشطة الخيرية. وقد اعتاد معظم التجار أياً كانت ديانتهم رشوة الموظفين العثمانيين والأتراك العرب من أجل قضاء مصالحهم. ولكن هذه الوسيلة، كما يشير حنا بطاطو، أحد أشهر المؤرخين الاجتماعيين العراقيين، كانت مكلفة للغاية ولا يمكن الاعتماد عليها دائما. فالعديد من كبار التجار، الذين فاض الكيل بهم من البيروقراطية العثمانية القديمة المتصلة، قاموا بالتعاطف مع ومساندة الثورة الإصلاحية لحركة تركيا الفتاة عام 1908 وتمثيلها السياسي في اللجان الإصلاحية للاتحاد والترقي.

تم استلهام حركة تركيا الفتاة بواسطة الدستور العثماني المستنير لعام 1876. ونادى بذلك مدحت باشا ذو الاتجاه الإصلاحي، الذي كان يدير بغداد المزدهرة في الفترة من 1869 إلى 173. وبالاستعانة بأقاربه قام مدحت باشا بالإحاطة بالسلطان المستبد عبد العزيز ونصب ابن أخيه، مراد الخامس، سلطاناً. ( وقد أمضى مراد أربعة أشهر فقط على العرش قبل أن يطيح به النبلاء بعد أن اعتبروه فاقداً لقواه العقلية ).

الأمر الأكثر أهمية هو أن مدحت باشا كان هو المؤلف الرئيسي لدستور 1876 المستنير. ويعتقد بعض المؤرخين أن هذا الدستور لو كان قد تم العمل به فربما كان من الممكن أن يؤدي إلى إطالة عمر تركيا العثمانية التي أطلق عليها بواسطة الغرب لقب " رجل أوروبا المريض " بسبب إدارتها المتخفية والفاسدة. وربما شعر تحالف الاحتلال الأمريكي – البريطاني، الذي اعتبر الحكومة الفعلية في العراق عامي 2003 و 2004، بالفخر بسبب تبنيه مبادئه في الدستور الذي تم وضعه بعد سقوط صدم حسين. واشتمل الدستور الجديد على أن العالم كل لا يتجزأ وعلى حرية الفرد وحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية التعليم والمساواة في الضرائب وتأمين رواتب القضاة وقيام الحكومة البرلمانية على التمثيل الشعبي.

كان أعضاء تركيا الفتاة، الذين أرادوا تطبيق هذه المبادئ لسامية، منفيين في فرنسا وسويسرا وبريطانيا. وكانوا يأملون منع المزيد من التمزق الحادث للإمبراطورية التي فقد بالفعل معظم أراضي اليونان والبلقان، وكذلك ليبيا. وقد رغبوا في إعادة بناء الدولة على أساس ليبرالي وقومي.

وفي عام 1903، حاولوا تجربة بعض أشكال التعاون مع الأرمن ( لم تكن الإبادة الجماعية التي حدثت للأرض عام 1915 قد جاءت بعد ) والمقدونيين وتجمعات ثورية أخرى، على الرغم من أن ذلك لم يحدث مع العرب.

وقد ثبت أن عدم التعاون مع العرب كان خطئاً فادحاً خلال الثورة العربية التي ساندها البريطانيون بالتحالف مع عرب الصحراء خلال الحرب العالمية الأولى.

كان لمحاولات إصلاح وإحياء الإمبراطورية التركية الآيلة للسقوط بعض الآثار الجانبية العربية. ففي عام 1909، قام نائب يهودي عن سالونيك في اليونان المحتلة بواسطة تركيا ( مسقط رأس مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك ) يسمى كاروزا بالتعبير عن حماسه المتقد. وقد رغب في قيام مسيرة ضخمة إلى القسطنطينية والإطاحة بالسلطان المستبد عبد الحميد. كان كاروزا يتحدث باسم وفد أرسل إلى السلطان لكي يعلن أنه تمت الإطاحة به.

تم احتجاز السلطان في فيلا يمتلكها صيارفة يهود لجمعية الاتحاد والترقي. وبعد وقت قليل أصبح نائب برلماني يهودي أخر من سالونيك وزيراً لمالية تركيا. وأعرب السفير البريطاني في اسطنبول، السير جيرالد لوثر، في حديث خاص إلى وزير الخارجية السير إدوارد جراي، عن أن العناصر اليهودية في الأدميرالية التركية ومكتب الحرب، قد أصبحت " منيعة " لدرجة أن الدبلوماسيين الألمان بدأوا في دفع " إتاوة خاصة " من أجل الحصول على الامتيازات والصفقات التجارية.

وفي نفس الوقت، قامت جماعة مساندة للصهيونية تدعى الاتحاد الاستيطاني اليهودي العام بمحاولة إقناع حكام تركيا الفتاة الجدد بإحضار جماعات المستوطنين اليهود إلى العراق وفلسطين ومصر وقبرص وسوريا وشرق تركيا ( الأناضول ).

واقترحوا تمويل هذا المشروع الاستعماري بالكامل باستخدام الأموال الشخصية للمستوطنين والمساعدات القادمة من البنوك والجمعيات المؤسسة بهدف تسهيل الهجرة. وفي المقابل، قام الاتحاد بالتعهد بأن "إخواننا في الدين الذين يحتلون أرفع المناصب سوف يستخدمون كل نفوذهم من أجل التقدم السياسي والاقتصادي للحكومة العثمانية الدستورية". وفي خطاب يتحدث عن نقل العرض إلى لندن، أشار السفير لوثر إلى أن نفس الجماعة رغبت في إقامة "دولة يهودية مستقلة في بلاد الرافدين " بحيث تكون: " إنسانية بحته وليست سياسية. وتم تحقيق نجاح جزئي في هذه الخطة الأخيرة من خلال جماعة من اليهود متصلة بالأعمال الداخلية لجمعية الاتحاد والترقي. وبين هذه الجماعة جاك ميتناش ، الذي كان شقيق زوجته سكرتيراً خاصاً للوزير الأعظم وكان سحر زوجته له تأثير خاص على سموه ".

لم تسفر هذه المبادرة عن شيء ، ولكن انفتاح طرق الاتصالات الدولية من خلال اختراع التلغراف وافتتاح قناة السويس أفاد التجار وأصحاب الأراضي العرب والأكراد.

وكان أحد هؤلاء هو محمد شلبي صابوني وهو ابن أحد باعة الصابون الجائلين. وقد أصبح ديكتاتورا للموصل من ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى عام 1911. وقد حقق نفوذه السياسي من خلال كرم الضيافة العثماني التقليدي تجاه الشخصيات البارزة في مجتمع الموصل والرشوة والعلاقات الطيبة مع الإكليروس أو رجال الدين المسيحي والتبادل الحر للمعلومات مع زعماء القبائل المحلية.

وحينما وصلوا إلى السلطة في القسطنطينية ، طالب أعضاء حركة تركيا الفتاة بإجراء انتخابات لبرلمان جديد يشارك فيه الشعب تبعاً لدستور 1876. وانتخبت الأقاليم الثلاثة لبلاد الرافدين ( الولايات ) – بغداد والبصرة والموصل – 17 نائباً. ومع ذلك، جاءوا من خارج العائلات الشيعية والكردية واليهودية والمسيحية ولكن فقط من عائلات سنية قديمة مثلت بعد ذلك قادة النظام البعثي العراقي لصدام حسين. وفي القسطنطينية اكتشفوا أنهم ليس لديهم الكثير من الأشياء المشتركة مع الأتراك الشباب أو العجائز الذين يفترض أنهم يحكمونهم ولكن ذلك يتوافر مع العرب في الولايات العثمانية الحالية أو السابقة مثل سوريا أو مصر أو الجزيرة العربية أو اليمن. وحينما عادوا إلى الوطن تبادلوا مع زعمائه أفكار ومبادئ القومية العربية، التي ولدت خلال القرن التاسع عشر واحتضنت المؤسسات التعليمية المسيحية مثل الجامعة الأمريكية في بيروت.

انتشرت مبادئ " النهضة العربية " ( وهو عنوان كتاب رائد كتبه جورج أنطونياس، وهو مؤرخ فلسطيني متميز ) بجوانبها الثقافية واللغوية والتعليم الجامعي وحقوق المرأة وأمور أخرى، كالنار في الهشيم في معظم الولايات التركية. وفي الوقت الحالي لا تزال تلهم الكثير من محاولات النهضة العربية. كما أنها أيضاً دفعت بجهود الحكام العرب المعادين للديمقراطية تقمعها في عالم اليوم. وراقت هذه المبادئ بشكل جوهري للعرب في المناطق الحضرية. ولكنها لم ترق كثيراً لسكان القرى والبدو في بلاد الرافدين والمناطق العربية الأخرى التي كانت تخضع للحكم التركي على الأقل ولو بالاسم فقط.

وقد استغرق الأمر حربين عالميتين والصعود والسقوط السريع للاحتلال البريطاني والفرنسي للشرق الأوسط وظهور دولة إسرائيل الجديدة وحليفها الرئيسي الولايات المتحدة الأمريكية من أجل أن تتحول بلاد الرافدين إلى العراق الحديث. إن هذه العمليات المتصارعة عبر أحداث القرن العشرين المتلاطمة هي التي يجب علينا تناولها من أجل فهم العداء المتأصل في العراق ومعظم الدول العربية والإسلامية في وقتنا الحالي تجاه القوى الاستعمارية ، ثم بعد ذلك إسرائيل، وأخيراً الولايات المتحدة.




















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق