الخميس، 24 سبتمبر 2009

الفصل الأول: الأصولية اليهودية داخل المجتمع اليهودي

إن كل يهودي إسرائيلي متوسط الثقافة، على وجه التقريب، يعرف الحقائق الواردة بهذا الكتاب عن المجتمع اليهودي الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن هذه الحقائق غير معروفة لمعظم اليهود وغير اليهود خارج إسرائيل الذين لا يعرفون العبرية وبذلك لا يستطيعون قراءة معظم ما يكتبه اليهود الإسرائيليون عن أنفسهم بالعبرية. وهذه الحقائق نادرا ما تذكر أو توصف بدقة في التغطية الإعلامية الهائلة لإسرائيل في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى. والهدف الأساسي من هذا الكتاب هو تمكين أولئك الأشخاص الذين لا يقرأون العبرية من المزيد من فهم أحد الجوانب المهمة للمجتمع اليهودي الإسرائيلي.
ويشير هذا الكتاب إلى الأهمية السياسية للأصولية اليهودية في إسرائيل، تلك الدولة التي تمارس نفوذاً عظيماً في الولايات المتحدة. والأصولية اليهودية تعرف هنا على نحو موجز على أنها الإيمان بأن الأرثوذكسية اليهودية، القائمة على التلمود البابلي وبقية الكتابات التلمودية ومجمل الشريعة اليهودية (الهالاخاه)، مازالت صالحة وسوف تظل كذلك أبداً. ويؤمن الأصوليون اليهود بان الكتاب المقدس نفسه لا يعتد به ما لم يفسر على النحو الصحيح من خلال كتابات التلمود. ولا توجد الأصولية اليهودية في إسرائيل فقط، ولكن في كل بلد به مجتمع يهودي كبير العدد. وفي بلاد أخرى غير إسرائيل، حيث يشكل اليهود أقلي صغيرة بالنسبة لمجمل السكان، فإن الأهمية العامة للأصولية اليهودية تكون مقتصرة بشكل رئيسي على حشد الدعم المالي والسياسي للأصوليين في إسرائيل. أما أهميتها في إسرائيل فإنها أكبر إلى حد بعيد لأن معتنقيها يستيطيعون التأثير في الدولة بطرق عديدة ويفعلون. وتنوع الأصولية اليهودية في إسرائيل يثير الدهشة. فالكثير من الأصوليين، على سبيل المثال، يرغبون في إعادة بناء الهيكل على "جبل الهيكل" في القدس أو يريدون على الأقل الحفاظ على موقعه، الذي هو الآن مصلى للمسلمين، خالياً من الزائرين، وفي الولايات المتحدة لا يوافق معظم المسيحيين على ذلك، ولكن عددا كبيراً من اليهود الإسرائيليين داخل إسرائيل والذين لا يعتبرون من الأصوليين يتفقون على ذلك، ويؤيدون هذا المطلب، ومطالب مشابهة، وبعض أنواع الأصولية اليهودية تمثل خطراً يفوق الأنواع الاخرى إلى حد كبير. والأصولية اليهودية ليست قادرة على التأثير فقط على السياسات الإسرائيلية التقليدية ولكنها قادرة أيضاً على التأثير على السياسات الإسرائيلية النووية. ونفس عواقب الأصولية التي يخشاها الكثير من الأشخاص في بلدان أخرى يمكن أن تحدث في إسرائيل.
إن أهمية الأصولية في إسرائيل يمكن فهمها فقط في سياق المجتمع اليهودي الإسرائيلي وكجزء من إسهام الديانة اليهودية في الانقسامات الداخلية للمجتمع. وتناولنا لهذا الموضوع الواسع يبدأ التركيز على الوسائل التي من خلالها يقوم المراقبون المطلعون بتقسيم المجتمع اليهودي الإسرائيلي سياسياً ودينياً. وبعد ذلك سوف نمضي قدماً في شرح أسباب تأثير الأصولية اليهودية بدرجات متفاوتة على اليهود الإسرائيليين الآخرين، مما يسمح لليهود الأصوليين بالحصول على قوى سياسة، في إسرائيل أكبر من حجمهم الحقيقي من حيث العدد.
أن التقسيم الثنائي المعتاد للمجتمع اليهودي الإسرائيلي يعتمد بشكل جوهري على إدراك أن اليهود الإسرائيليين يتميزون بدرجة عالية من الأيديولوجية، ويتضح ذلك إلى حد بعيد من خلال نسبة التصويت المرتفعة، والتي تزيد عادة على 80%، وفي انتخابات مايو 1996، شارك في التصويت ما يزيد على 90% من اليهود العلمانيين الأفضل تعليما والأكثر ثراء واليهوزد المتدينين من كل فئات التعليم والدخل، وبعد استبعاد العدد الكبير من اليهود الإسرائيليين الذين يقيمون خارج إسرائيل (ما يزيد على 400000 فرد)، والذين لم يصوت معظمهم، يمكن القول دون أدنى شك أن كل من له حق التصويت في القطاعين اللذين يمثلان المجتمع اليهودي الإسرائيلي، أدلى بصوته في الانتخابات. إن معظم المراقبين السياسيين الإسرائيليين يفترضون الآن أن اليهود الإسرائيليين ينقسمون إلى فئتين: إسرائيل (أ) وإسرائيل (ب). ويشار إلى إسرائيل (أ) غالباً بـ "اليسار" الذي يمثله سياسياً حزباً العمل وميرتس، وإلى إسرائيل (ب) بـ"اليمين" أو "اليمين والأحزاب الدينية" ويتكون من كل الأحزاب اليهودية الأخرى. وكل إسرائيل (أ) تقريباً والغالبية العظمي من إسرائيل (ب) فيما عدا بعض اليهود الأصوليين، تعتنق الأيديولوجية الصهيونية بقوة والتي تتلخص في أن كل أو على الأقل الغالبية العظمي من اليهود يجب أن يهاجروا إلى فلسطين باعتبارها أرض إسرائيل، والتي تنتمي إلى كل اليهود، ويجب أن تكون دول يهودية. ومع ذلك فهناك عداء متزايد بين هذين القطاعين للمجتمع الإسرائيلي. وأسباب هذا العداء عديدة، والسبب المرتبط بهذه الدراسة هو أن إسرائيل (ب)، متضمنة أعضاءها العلمانيين، تتعاطف مع الأصولية اليهودية بينما إسرائيل (أ) ليست كذلك. الاجتماع بالجامعة العبرية، بيانات خاصة بالتصنيف الديني للمجتمع اليهودي الإسرائيلي، ومن خلال الاستشهاد بالعديد من الدراسات البحثية، بين كيمرلنج بشكل قاطع أن المجتمع اليهودي الإسرائيلي منقسم حول القضايا الدينية بدرجة أكبر مما يعتقد عادة إلى حد بعيد خارج إسرائيل، حيث تسود مفاهيم وجود أشياء "مشتركة بين كل اليهود".
ومن خلال الاستعانة بالبيانات الواردة في إحدى دراسات استطلاع الرأي والتي قام بها معهد جوتمان الذائع الصيت والتابع للجامعة العبرية في القدس، يشير كيمرلنج إلى أنه بينما أفاد 19% من اليهود الإسرائيليين بأنهم يصلون يومياً، أعلن 19% آخرين بأنهم لم يدخلوا المعبد تحت أي ظرف من الظروف.
ومن خلال تأثرهم بتحليل معهد جوتمان ودراسات مشابهة، توصل كيمرلنج وباحثون آخرون إلى أن إسرائيل (أ) وإسرائيل (ب) تحتوي على أشخاص يعتنون وجهات نظر معارضة تماماً للديانة اليهودية، وهذا صحيح بالتأكيد.
على نحو أكثر عمومية، يمكن تقسيم الموقف من الدين في المجتمع اليهودي الإسرائيلي إلى ثلاثة أقسام: اليهود المتدينون الذي يلتزمون بتعاليم الدين اليهودي، كما يحددها الحاخامات الأرثوذكس، والكثير منهم يركزون على الشعائر أكثر من تركيزهم على جوهر الإيمان، (عدد اليهود الإصلاحيين والمحافظين صغير في إسرائيل) ويقوم اليهود التقليديون بالحفاظ على بعض التعاليم المهمة للديانة اليهودية بينما يقومون في نفس الوقت بانتهاك التعاليم غير الملائمة من وجهة نظرهم ويقدسون الحاخامات والدين. وربما يقوم العلمانيون في بعض الأحيان بدخول المعابد ولكنهم، لا يكنون أي احترام للحاخامات أو للمؤسسات الدينية، والخط الفاصل بين اليهود التقليديين واليهود العلمانيين في الغالب يفتقد الوضوح، ولكن تشير الدراسات إلى أن 25 إلى 30% من اليهود الإسرائيليين هم من العلمانيين، و50 إلى 55% من التقليديين وحوالي 20% متدينون وينتمي اليهود التقليديون على نحو واضح إلى كل من إسرائيل (أ) وإسرائيل (ب).
وينقسم اليهود الإسرائيليون المتدينون إلى مجموعتين مختلفتين ويسمي أعضاء الجماعة الأكثر تطرفاً "أو تشدداً" منهما "الحريديم". (وهي جمع لكلمة "حريدي" بمعنى الذي يخشي الله أو المتقي). أما أعضاء الجماعة الأكثر اعتدالا فيطلق عليهم اليهود المتدينون القوميون.
ويطلق أحياناً على اليهود المتدينين القوميين "ذوي الطواقي المشغولة" نسبة إلى ما يضعونه فوق رؤوسهم. أما الحريديم فإنهم يرتدون عادة أغطية رأس سوداء ولكنها لا تكون مشغولة أبداً، أو يرتدون قبعات سوداء. ويرتدي اليهود المتدينون القوميون عادة الملابس العادية التي يرتديها بقية أفراد الشعب الإسرائيلي بينما يرتدي الحريديم دائما الملابس السوداء.
وينقسم الحريديم في حد ذاتهم إلى حزبين: الأول، يسمي ياهدوت هاتوراه "أي يهود التوراة" وهو حزب الحريديم الاشكناز القادمين من أوروبا الشرقية. (الاشكناز عموماً هم اليهود من أصل غربي)، وحزب ياهدوت هاتوراه عبارة عن ائتلاف من جماعتين.
الحزب الثاني للحريديم هو حزب شاس، وهو حزب الحريديم الشرقيين الذين يعود أصلهم إلى الشرق الأوسط.
(والفرق بين مجموعتي الحريديم سوف يناقش على نحو أكثر تفصيلاً في الفصل الثالث). واليهود المتدينون القوميون منتظمون فيما يسمي بالحزب الديني القومي منتظمون فيما يسمي بالحزب الديني القومي (NRP). ومن خلال تحليل التصويت الانتخاب لعام 1996 وإجراء بعض التعديلات الضرورية، نستطيع أن نقدر النسب المئوية لشعبية هاتين المجموعتين من اليهود المتدينين.
ففي انتخابات 1996 حصل الحزبان المنتميان للحريديم معاً على 14 مقعداً من إجمالي عدد مقاعد الكنيست البالغة 120 مقعداً، فحص لشاس على عشرة مقاعد وياهدوت هاتوراه على أربعة مقاعد. أما الحزب الديني القومي ففاز بتسعة مقاعد، وأقر بعض اليهود الإسرائيليين بأنهم صوتوا لصالح شاس لأن التمائم والتعويذات التي وزعها الحزب تكون صالحة فقط بعد التصويت "الصحيح".
علاوة على ذلك فإن بعض أعضاء الحزب الديني القومي وأنصارهم اعترفوا بأنهم صوتوا لصالح أحزاب علمانية يمينية. وعلى كل حال، فإن الحريديم يشكلون غالباً 11% من عدد سكان إسرائيل و13.4% من اليهود الإسرائيليين وأنصار الحزب الديني القومي يمثلون حوالي 9% من عدد السكان و11% من اليهود الإسرائيليين.
والمعتقدات الأساسية للمجموعتين من اليهود المتدينين تحتاج إلى بعض التفسير التمهيدي. فكلمة "حريدي" هي كلمة عبرية شائعة تعني "الخائف" وخلال التاريخ اليهودي المبكر، كانت تعني "خشية الله" أو تجاوزا "التقي" وفي منتصف القرن التاسع عشر تم استخدامها، أولاً في ألمانيا والمجر وبعد ذلك في أجزاء أخرى من الشتات، كاسم لحزب اليهود المتدينين الذين يعارضون أي اختراع حديث "أي بدعة". وظهر الحريديم الاشكناز كمجموعة رجعية تعارض التنوير اليهودي عموماً، وبشكل خاص أولئك اليهود الذين يرفضون الخضوع لسلطة الحاخامات والذين أدخلوا البدع في العبادة اليهودية ونمط الحياة اليهودي. ومن خلال رؤيتهم لقبول كل اليهود تقريباً لهذه البدع، كان رد فعل الحريديم أكثر تطرفاً وحرموا أي ابتكار "أو بدعة". ويصر الحريديم حتى اليوم على الالتزام الصارم بالهالاخاه (الشريعة اليهودية) ومن الأمثلة الدالة على معارضتهم لأي ابتكار إصرارهم على ارتداء الزى الأسود الذي أشرنا إليه آنفا والذي كان يرتديه يهود شرق أوروبا حينما شكل الحريديم الحزب الخاص بهم.
وقبل ذلك الوقت كان اليهود يرتدون مختلف الأزياء وكانوا في الغالب لا يختلفون في ملابسهم عن جيرانهم. وبعد فترة وجيزة، كان كل اليهود تقريباً فيما عدا الحريديم يرتدون ملابس مختلفة. علاوة على ذلك، لم تلزم الشريعة اليهودية (الهالاخاه) اليهود بأن يرتدوا ملابس سوداء، ولا بأن يرتدوا معاطف سوداء ثقيلة وقبعات مبطنة بالفرو في الصيف الحار ولا في أي وقت آخر، ومع ذلك فإن الحريديم في إسرائيل يواصلون فعل ذلك، من أجل الاعتراض على البدع، ويصرون على استمرار الزى الذي أن يتم ارتداؤه في أوروبا في حوالي عام 1850. وكل الاعتبارات الأخرى بما فيها اعتبارات الطقس، باطلة.وعلى النقيض من الحريديم، قام اليهود المتدينون القوميون بالحزب الديني القومي بالتصالح مع المعاصرة في بداية العشرينيات حينما ظهر الانشقاق بين التجمعين الكبيرين من اليهود المتدينين للمرة الأولى في فلسطين، وهذا يمكن أن يلاحظ بشكل واضح في ملابسهم التقليدية باستثناء غطاء الرأس الصغير (القلنسوة) والأمر الأكثر أهمية يتمثل في سبيل المثال الكثير من التعاليم الخاصة بالمرأة، ولا يتردد أعضاء الحزب الديني القومي في قبول النساء بمواقع السلطة في كثير من تنظيماتهم، وفي الحزب نفسه. وقبل انتخابات 1992، و1996 قام الحزب الديني القومي بنشر وتوزيع إعلان يحتوي على صور فوتوغرافية لمختلف الشخصيات العامة تحتوي على بعض النساء اللائي يؤيدن الحزب كما ظهرت النساء في الدعاية التليفزيونية بدرجة أكثر كثافة.
أما الحريديم فإنهم لم ولن يفعلوا، فحتى عندا قرر الحريديم، الذين يحرمون مشاهدة التليفزيون على أنفسهم، أن يقدموا بعض البرامج الانتخابية التليفزيونية الموجة لليهود الآخرين، أصروا على أن يكون كل المشاركين فيها من الذكور، وأثناء الحملة الانتخابية لعام 1992، قام محررو إحدى المطبوعات الحريدية الأسبوعية باستشارة الرقيب الحاخامي بشأن نشر أو عدم نشر إعلان الحزب الديني القومي المشار إليه آنفا. وأمر الرقيب الحاخامي الصحيفة بأن تنشر الإعلان، ولكن مع شطب كل صور النساء. واستشاط الحزب غضباً وقام بمقاضاة الصحيفة بتهمة السب والتشهير وطالب بالتعويض أما محاكم إسرائيلية علمانية متجاهلا تعليمات الحاخامات الحريديين بعدم استخدام المحاكم العلمانية لتسوية النزاعات بين اليهود.
إن التصالح اليهودي الديني القومي مع الاتجاه المعاصر فيما يتعلق بالنساء هو أمر بالغ التعقيد من نواح عديدة، فالشريعة اليهودية تحرم على اليهود الذكور الاستماع إلى غناء المرأة سواء في مجموعة أو على نحو منفرد بصرف النظر عما يغني. وهذا منصوص عليها بشكل مباشر في تعالم الهالاخاه التي تقول إن صوت المرأة عورة.
وتم تفسير ذلك لاحقاً من خلال تعاليم الحاخامات على أن كلمة "صوت" تعني غناء وليس حديث المرأة، وهذا الأمر الذي نشأ في التلمود، يوجد في كل نصوص الشريعة اليهودية، فاليهودي الذي يستمع عمداً إلى غناء امرأة يرتكب إثما يعادل الزنى أو الفسوق. والغالبية العظمي من أعضاء الحزب الديني القومي الملتزمين، يستمعون إلى غناء المرأة، وبذلك فهم يرتكبون "الزنى" بشكل روتيني. وبعض أعضاء الحزب الديني القومي الأكثر تشدداً، وخاصة ضمن مستوطني الضفة الغربية، لم يفكروا مليا في هذه المشكلة فقط ولكنهم أيضاً حاولوا حل مشكلة التكيف من خلال استنباط حلول مبتكرة، ففي أوائل التسعينيات، قام بعض المستوطنين بإنشاء محطة إذاعية جديدة، وهي عروتس 7، أو القناة 7. ولكي تكون المحطة ناجحة وتجذب أكبر عدد من اليهود الإسرائيليين، أدرك المستوطنون أن أغاني المغنين الذائعي الصيت، وبعضهم من النساء، يجب أن يتم بثها، ومع ذلك رفض الرقيب الحاخامي السماح بخرق الشريعة حيث يستمع الذكور لغناء الإناث، وبذلك يرتكبون جريمة "الزنى". وبعد الكثير من المشاورات مع الرقيب، اقترح المستوطنون حلا حظي بالقبول ومازال يستخدم حتى اليوم، فيقوم الرجال بغناء الأغاني الشهيرة للمطربات وبعد ذلك يتم تحويل الأصوات إلكترونيا إلى الطبقات الصوتية النسائية، ويتم بثها عبر القناة 7. وهناك جانب من الجمهور التقليدي يشعر بالرضا عن هذا الحل النفعي، أما الحاخامات المثقفون بالحزب الديني القومي فيصرون على أن استماع الرجال إلى غناء النساء لا غبار عليه.
وقام الحريديم برفض وإدانة هذا التكيف وحتى اليوم يرفضون الاستماع إلى القناة 7. والأمر الأكثر أهمية، أن الحريديم بعد زيادة قوتهم السياسية إلى حد ما في انتخابات 1988، كانوا قادرين على فرض موقفهم في هذا الشأن على الدولة ككل من خلال فرض التغيير على الجلسة الافتتاحية بالكنيست. وكانت مراسم الافتتاح في السابق تبدأ بغناء نشيد إسرائيل القومي "الهاتيكفاه"، من خلال مجموعة من الرجال والنساء. وبعد انتخابات 1988، ونزولا على رغبة الحريديم، قام مغن رجل بالغناء بدلا من المجموعة المشتركة وبعد انتخابات 1992، التي فاز فيها حزب العمل، قامت مجموعة من المتشددين العسكريين بغناء النشيد.
كيف يمكن للحريديم، الذين يشكلون مجرد نسبة صغيرة من المجتمع اليهودي الإسرائيلي، سواء وحدهم أو بمساعدة الحزب الديني القومي، أن يفرضوا مشيئتهم على بقية المجتمع؟ الإجابة بسيطة تتمثل في أن كلا من حزبي العمل والليكود يتملقان الحريديم للحصول على مساندتهم السياسية، وهذا التفسير غير كاف، فهذا التملق قد استمر فيما بين 1984، 1990 أثناء الوقت الذي كان فيه العمل والليكود يشكلان ائتلافاً، وكانت مداهنة الحريديم من أجل ضمان انحيازهم ليست لها ضرورة سياسية، علاوة على ذلك، فإن التفسير الحالي لا يأخذ في الاعتبار، بدرجة كافية، النزعة الخاصة لكل الأحزاب الدينية، التي اعتبرت أصولية منذ عام 1980، للانجذاب نحو الليكود وأحزاب يمينية علمانية أخرى، وهذه الصلة، خاصة بين الليكود والأحزاب الدينية المتشددة، والتي تقوم على نظرة مشتركة للعالم، هي لب السياسة الإسرائيلية (وهذه الصلة تناظر تلك الصلة الموجودة بين الأصوليين المسيحيين والمسلمين وأحزابهم اليمينية العلمانية).
والنموذج البسيط نسبياً للحزب الديني القومي يعبر عن ذلك بشكل جيد، فالحزب الديني القومي يعترف على الرغم من عدم إتباعه لذلك دائما، بنفس سلطات الهالاخاه كما تفعل الأحزاب الحريدية، والحزب الديني القومي يعتنق دائما نفس الأفكار المتصلة بالماضي اليهودي، وعلى نحو أكثر أهمية، تلك المتصلة بالمستقبل حينما تنتصر إسرائيل على أعدائها من غير اليهود.
والفروق بين الحزب الديني القومي والحريديم تنبع من إيمان الحزب بأن الخلاص قد بدأ وسرعان ما يكتمل من خلال المجيء الوشيك للمسيح. أما الحريديم فإنهم لا يشاركون الحزب هذا الاعتقاد، ويؤمن الحزب الديني القومي بأن هناك ظروف خاصة عند بداية الخلاص تبرر التخلي مؤقتاً عن المبدأ مما يساعد على التعجيل بعملية الخلاص، وتأييد الحزب في بعض المناسبات للخدمة العسكرية لمعلمي التلمود هو مثال لذلك، وهذه الأفكار التحريفية للحزب قد تعرضت للتقويض منذ السبعينيات من خلال اتساع تأثير النفوذ الحريدي على أعداد متزايدة من مؤيدي الحزب الديني القومي الذين عارضوا الخروج على تعاليم التلمود الصارمة وفضلوا المواقف الحريدية، وهذه العملية قد توازنت إلى حد ما مع تصاعد مكانة مستوطني الحزب الديني القومي الذين ينظر إليهم كرواد للفكر المسياني "المتمثل في الخلاص وظهور المسيح"، حتى على الرغم من أن اغتيال رابين، رئيس الوزراء الراحل، على يد مسياني ربما يكون قد أدي إلى تزايد مكانة الحريديم على نحو مؤقت.
إن النفوذ الديني المؤثر على الجناح اليميني الإسرائيلي لإسرائيل (ب) يعزي إلى طبيعته العسكرية ونظرتهما المشتركة نحو العالم. فاليهود الإسرائيليون اليمينيون العلمانيون المشبعون بالروح الحربية يعتنقون وجهات نظر سياسية ويتحدثون بلغة مشابهة لتلك الخاصة باليهود المتدينين.
وبالنسبة لمعظم أتباع الليكود، فإن "للدم اليهودي" هو السبب في أن اليهود يحتلون منزلة مختلفة عن غير اليهود، بمن فيهم بالطبع المواطنون الإسرائيليون غير اليهود، والذي يخدمون في الجيش.
وبالنسبة لليهود المتدينين، فإن دم غير اليهود ليس له قيمة جوهرية، وبالنسبة لليكود، فإن له قيمة محدودة، واستخدام مناحم بيجن البارع لتلك اللغة التي تتحدث عن الأغيار جلبت له الأصوات والشعبية، وهذا هو مربط الفرس. فالفرق بين العمل والليكود يتمثل في اللغة ولكنة فرق مهم لأنه يكشف عن جانب من نظرتهما إلى العالم. ففي عام 1982، على سبيل المثال حينما قام الجيش الإسرائيلي باحتلال بيروت، لم يستطع رابين الذي يمثل حزب العمل، على الرغم من دفاعه عن نفس السياسات التي يحبذها شارون والليكود، أن يقدم أي تفسير لمذابح صبرا وشاتيلا من خلال القول، كما فعل بيجن: "إن الأغيار يقتلون الأغيار ويلقون باللوم على اليهود" وحتى إذا كان رابين نفسه قادرا على قول ذلك، فإنه كان يعلم أن معظم مؤيديه العلمانيين في حزب العمل، الذين يميزون بين الأغيار الذين يكرهون اليهود وأولئك الذين لا يفعلون، لن يغفروا له تلك العبارة. فهم يرفضون تلك اللغة باعتبارها غير صحيحة وضارة.
ويتضح التأثير الديني من خلال تعلق اليمن بأهداف الماضي اليهودي وإصراره على أن اليهود لديهم حق تاريخي في توسيع أراضي إسرائيل إلى ما وراء الحدود الحالية. وعلى نحو أكثر من الإسرائيليين العلمانيين الآخرين، يصر أعضاء اليمين الإسرائيلي على التفرد اليهودي.
وخلال قرون عديدة من وجودهم، كانت الغالبية العظمي من اليهود تشبه على نحو ام حريديم اليوم. وعلى ذلك، فإن أولئك اليهود الذين ينفخون الروح في الماضي اليهودي كدليل على التفرد اليهودي يحترمون إلى حد ما اليهود المتدينين باعتبارهم حملة شعلة ذلك الماضي. والجانب الأساسي لتأكيد اليمين على التفرد يتمثل في بغضه لمفهوم (الاستواء)، بمعنى تساوي اليهود مع الشعوب الأخرى ورغبتهم في الاستقرار، مثل الأمم الأخرى، وبعض الصلات الثقافية بين اليهود والعلمانيين والمتدينين باليمين الإسرائيلي ليست أيديولوجية في جوهرها. والكثير من مؤيدي الليكود، سواء كانوا من أصل سفاردي "شرقي" أو اشكنازي "غربي"، هم من التقليديين الذي ينظرون إلى الحاخامات على أنهم شخصيات تحيط بهم هالة من السحر والقداسة، والمتأثرون بذكريات الطفولة الخاصة بالعائلة الأبوية، حيث يتولي الجد مسئولية التعليم، أما النساء "فيعرفن حدودهن" وعلى الرغم من أن هذه الاعتبارات أكثر تجسداً في الطليعة المتدينة، فإنها تؤثر أيضاً على يهود اليمين العلمانيين. ويقوم اليمين غالباً بالمبالغة في بهاء وتفرق الماضي اليهودي، وخاصة حينما يطالب بالحفاظ على التفرد اليهودي.
ويشترك أعضاء اليمين المتدينون والعلمانيون في المخاوف كما يشتركون في المعتقدات. ففي يوم 6 أكتوبر 1993، في مقال نشر بصحيفة هاآرتس، أشهر الصحف العبرية الناطقة بالعبرية في إسرائيل، يعبر دورون روزنبلام من خلال الاعتماد على مصادر متنوعة، عن ذلك بواسطة الاستشهاد بتصريحات زعماء الليكود التي تمت صياغتها لكي تبين للإسرائيليين مدى أخطار وتهديدات عملية السلام، وفي نفس الوقت الاستمرار في التذكير بأن الليكود هو من بدأ العملية.
وقام روزنبلام بالاستشهاد بالعبارة الآتية لعضو الكنيسة الإسرائيلي عوزي لانداو، الذي تم تعيينه بعد انتخابات 1996 رئيس للجنة الدفاع والشئون الخارجية بالكنيست:
"إذا تم إتباع سياسات رابين تجاه سوريا، فذات صباح سوف يستيقظ اليهود الإسرائيليون على صوت هدير الدبابات السورية وهي تتهادي من مرتفعات الجولان مثل قطعان الأغنام... وعندئذ تهاجم مستوطنات الجليل بقوة نيران أقوي من ذلك التي استخدمت في حرب 1973، وبما أن فكرة استئصال شأفة الإسرائيليين لا تزال في بؤرة اهتمام السوريين. فإن لحظة أي انسحاب إسرائيلي من مرتفعات الجولان هي نفس لحظة اقتراب السكين السوري من رقبة كل مواطن في الجليل... فالسياسة السورية يحكمها قانون ثابت لا يخضع للتغيرات السريعة".
ومن الواضح أن وسائل الإعلام الغربية التي تكيل بمكيالين، والتي من المؤكد أنها كان يمكن أن تفتك بأي مسئول غير يهودي يصف السياسة الإسرائيلية بأنها يحكمها قانون ثابت وغير خاضعة للتغيرات السريعة، تجنبت التعليق على عبارة لانداو.
كما قام روزنبلام أيضاً بالاستشهاد بعبارة عضو الكنيست الإسرائيلي بني بيجن، وأحد كبار قادة حزب الليكود، حينما أعرب عن تخوفه من أن تقوم سوريا بهجوم مباشر على إسرائيل. وهذا التخوف يعبر عنه بشكل شائع بين أعضاء معظم الأحزاب السياسية الإسرائيلية.
ومع ذلك فإن ما يميز إسرائيل "ب" هو، كما أعلن بني بيجن، الاعتقاد بان أهداف الغزو هي نفس "أهداف سفاحي الكيشينيف في قطع رقاب اليهود"(
[1]). وأضاف بيجن أنه في هذه المرة سوف يقوم علماء الذرة بالمساعدة في تنفيذ المشروع السوري. ومقارنة المجتمع اليهودي غير المسلح، الذي كان يمثل أقليه صغيرة في الإمبراطورية الروسية، بإسرائيل وجيشها تمثل موقفاً مشتركاً يتعلق بالماضي اليهودي من خلال الأحزاب الإسرائيلية اليمينية العلمانية واليهود المتدينين. وهذا الموقف لا يضع في اعتباره أي تطور تاريخي. فاليهود تحت أي ظرف من الظروف هم دائما ضحايا حاليون أو مستقبلون للأغيار.
واعتبر روزنبلام الذي ينتمي لإسرائيل "أ" كل هذه الأشياء متنافرة مع بعضها البعض، ومن خلال النظر إلى ما أسماه لانداو بقطيع الأغنام السوري، تساءل: "هل يقصد لانداو بذلك أننا ذئاب؟" ويقدم روزنبلام تحليله عن السبب في عدم قدرة هذه الصورة على الإقناع:
"هناك الكثير من الشكوك العميقة الطويلة الأمد التي تقول أن أعضاء المعسكرات القومية "وهم اليمين العلماني" يستخدمون لغة القوة من أجل إخفاء خوفهم الكامن من العالم بأسره، وهذا الخوف لم يتبدد ولو قليلاً مع إنشاء دولة إسرائيل. ورغم كل أخطائه ينتج حزب العمل أيا كانت الوسائل في أن ينحي جانباً تلك المخاوف وأن يستبدلها بنظره بناءه وبراجماتية نحو العالم. أما الليكود، الذي استأنف هوايته التاريخية فإنه لم يفعل ذلك.
وهؤلاء اليهود المغالون في الوطنية الذين يتحدثون بثقة مطلقة عن قوة وقدرة إسرائيل لفرض مشيئتها على الشرق الأوسط هم الأكثر عرضة لتلك المخاوف.
ونفس هؤلاء الأشخاص الذي يتوقعون قدوم هولوكوست اخرى فور أن تقوم إسرائيل بتقديم أية تنازلات للعرب كانوا يرددون دائما أن الجيش الإسرائيلي إذا لم يقيد بواسطة السياسيين أو الأمريكيين أو اليهود اليساريين فإنه يستطيع أن يجتاح بغداد في غضون أسبوع واحد. وقام "آريئيل شارون بالفعل بإعلان هذا التصريح قبل أسابيع قليلة من حرب أكتوبر 1973"، إن الخوف والثقة بالنفس يتعايشان على نحو متناغم والإيمان بالتفرد اليهودي يعزز هذا التعايش ولا يدرك معظم المراقبين الأجانب أن قطاعاً ضخماً من الجمهور اليهودي الإسرائيلي يؤمن بهذه الآراء المسرفة في الوطنية. إن خليط الشيزوفرينيا المكون من المخاوف الجامحة والثقة المفرطة بالنفس الموجود بوفرة لدي اليمين الإسرائيلي العلماني واليهود المتدينين، يشبه الأفكار التي يعتنقها المعادون للسامية الذين ينظرون إلى اليهود نفس النظرة التي كانوا ينظرون بها إليهم عندما كانوا أقوياء ومن السهل هزيمتهم، وهذا أحد أسباب أن المواقف التي يقفها أفراد اليمين الإسرائيلي من الأغيار وخاصة العرب تشبه إلى حد بعيد مواقف المعادين للسامية من اليهود.
كما يتقاسم اليمين العلماني واليهود المتدينون مخاوف أخرى. فهم يخافون الغرب كما يخافون الرأي العام الداخلي.
كما أنهم يخافون ويدينون اليساريين اليهودي، وهذا المصطلح يتسع ليشمل معظم إتباع العمل، لتفضيلهم العرب على اليهود ولأنهم يعيشون في الأوهام، كما أنهم ينظرون إلى اليسار باعتبارهم خطرين بسبب قدرتهم على جذب أنصار جدد وخاصة من صفوف الصفوة المثقفة.
إن موضوع التساوي "أي تساوي اليهود مع غير اليهود" هو أبرز الموضوعات التي تفصل بين اليمين واليسار، فاليسار يتوق إلى التساوي ويرغب في أن يكون اليهود أمة مثل بقية الأمم. أما اليمين الإسرائيلي على الجانب الآخر فإنهم متحدون في استيائهم من فكرة التساوي وإيمانهم تبعاً لاتجاهات الدين اليهودي بأن اليهود مختلفون عن الأمم والشعوب الأخرى. كما أن تبجيل الماضي اليهودي يعزز هذا التفرد. ويؤمن اليهود المتدينون بان الله خلق اليهود متفردين، أما اليمين العلماني فيؤمن بان اليهود كتب عليهم هذا التفرد من خلال ماضيهم وليس لديهم أي خيار في ذلك.
وهناك سبب آخر ولكنه أقل أهمية للصلة الموجودة بين اليمين العلماني واليهود المتدينين وهو أن هؤلاء قادرون على تقديم حجج "مقنعة" لوجوب السيطرة اليهودية الأبدية على أرض إسرائيل وإنكار حقوق أساسية معينة للفلسطينيين. وهذه الحجج لا توضع فقط في إطار الأمن القومي ولكن من خلال الحق الذي يمنحه الله لليهود لامتلاك هذه الأراضي.
كما أن الباحثين والسياسيين العلمانيين المنتمين لليكود غالباً ما يكونون أبعد ما يمكن عن الماضي اليهودي والقيم اليهودية لكي يتحدثوا أو حتى يفهموا تلك الأمور على نحو مناسب، فالمتدينون فقط هم من يستطيعون تقديم منطق راسخ لسياسيات الليكود، التي تعتمد ليس فقط على الاعتبارات الإستراتيجية القصيرة الأمد ولكنها تعتمد على التاريخ الطويل للعلاقة الخاصة بين الله وشعبه المختار.
وعلى الرغم من تواجدها على نحو مكثف بين أعضاء إسرائيل "ب" فإن نفس هذه الآراء يمكن تبنيها بين أعضاء إسرائيل "أ". وهذه الحقيقة تقدم تفسيراً للتنازلات السياسية التي تقدم للأحزاب الدينية. "كثيراً ما يقوم المراقبون الأجانب بإرجاع هذه التنازلات فقط إلى حجم وتكتل الأحزاب الدينية". وهذه الآراء قد أثرت أيضاً على التاريخ والتعليم اليهودي. ومنذ أواخر الخمسينيات وخاصة بعد حرب 1967 والمؤرخون والباحثون والمعلمون اليهود الإسرائيليون على الرغم من أنهم عموماً أكثر أمانه في كتاباتهم من معظم زملائهم في الشتات فقد قاموا غالباً بتجميل مجتمعات الماضي اليهودي وإلباسها ثوباً رومانسياً كما قاموا بتجنب النقد. وهذا النوع من الكتابات التبريرية كان يمثل اتجاها جديداً. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين والصهاينة الأوائل وآخرون ينتمون إلى الحركات اليهودية المعاصرة ينتقدون بشدة الكثير من جوانب تقليديهم الثقافية الدينية ويحاولون تغيير أو حتى تدمير أجزاء من هذه التقاليد.
ومنذ أواخر الثمانينيات وبعض المؤرخين الأصغر عمراً، ربما بسبب الاستقطاع المتزايد للمجتمع اليهودي الإسرائيلي يقومون بكتابة ونشر بعض الأعمال النقدية التي خلخلت إلى حد ما الاتجاه الدفاعي الساري.
تحتاج المقارنة بين مخاوف ونظرة اليمين العلماني إلى العالم وتلك الخاصة بالحريديم إلى المزيد من الإيضاح، فالمفاهيم الحريدية في رؤية العالم يمكن فهمها فقط كآثار للأزمنة القديمة. وقام مناحم فريدمان وهو أحد المراقبين اليهود الغربيين بدراسة الحريديم في كل من فلسطين تحت الانتداب ودولة إسرائيل حيث قام بوصفه أستاذاً بجامعة بار إيلان الدينية بتقديم وصف ممتاز لمفاهيم الحريديم في مقال بصحيفة "دافار" نشر في 4 نوفمبر 1988 وقام فريدمان بكتابة هذا المقال من أجل شرح أسباب الفشل الانتخابي الذي نتج عن المحاولة غير الناجحة التي قام بها بعض المرشحين على قائمة المتدينين في عام 1988 للدفاع عن القيام ببعض الاعتدال فيما يتعلق بالتعامل من الفلسطينيين. وقام فريديمان بالتوضيح على النحو التالي: "إن العالم الحريدي يدور حول اليهودية. وجوهر الفكر الحريدي يتمثل في مقولة فصل اليهود عن الأغيار. وهذا هو السبب في أن أي تحالف بين حمائم الحريديم وحمائم العمل مستحيل. فليس هناك في الواقع شيء اسمه حمائم الحريديم. والناس الذين يتحدثون عن العالم الحريدي لا يعرفون عادة كيف يقرأون علاماته".
فهم لا يفهمون هذا العالم ولا شخصياته البارزة. والمسافة بين حمائم الحريديم وصقورهم ليست كبيرة، فكلاهما يرى العلاقة بين غير اليهود واليهود كما كانت قبل إنشاء إسرائيل. كما أنهم يفترضون أن غير اليهود واليهود على طرفي نقيض فغير اليهودي يريدون قتل وتدمير اليهود، والفروق الصحيحة التي توجد بين اليهود يجب أن تكون فقط بشأن كيفية الرد على هذه الرغبة غير اليهودية الموجودة دائما. والآن هناك زوج من ردود الأفعال الحريدية المتبادلة على هذا الافتراض المزعوم. فيقول الحاخام شاخ "الأب الروحي لإحدى الجماعتين الحريديتين" أنه بما أن غير اليهود يكرهوننا فإننا نحتاج إلى التزام الهدوء والإحجام عن استفزازهم من خلال عدم تذكيرهم بوجودنا. أما الحاخام لوبوفتشر فيقول إننا يجب أن نكون أقوياء، وهاتان إجابتان تبادليتان، كلتاهما تنشأ عن مفهوم مشترك بأن هناك فجوة تفصل اليهود وغير اليهود. والحاخام شاخ ليس حمامة بنفس مفهوم شولاميت آلوني "الزعيمة السابقة لحزب ميرتس" فآلون حمامة لأنها تؤمن بان الإنسانية يجب أن تؤكد على المساواة بين كل البشر ومقدرة كل البشر والأمم على التواصل. ويؤمن الحاخام شاخ بأن التواصل مع غير اليهود غير ممكن وأنهم يمكنهم فقط أن ينسوا وجود اليهود. ويقول لوبوفتشر بأننا يجب أن نكون أقوياء من أجل الدفاع عن أنفسنا ضد غير اليهود الذين يريدون دائما أن يدمرونا. فالفرق بين الزعيمين يمكن أن يعبر عنه من خلال مواقفهما تجاه اتفاقية السلام مع مصر. فالاثنان يتفقان على أنه ليس هناك سلام ولن يكون أبداً، لأن المصريين يريدون القضاء علينا.
ومع ذلك يضيف الحاخام شاخ قائلاً إننا يجب أن نحاول الحد من "الضحايا اليهود" لأقصي درجة ممكنة من خلا التزام الهدوء. أما رابي لوبوفتشر فيقول: لأن السلام لا يتوافر على أي حال فإننا يجب أن نرفض تقديم أي تنازلات فالحمامة الحريدية لا تؤمن بأي نوع من أنواع السلام وعلى ذلك فإن أي حديث عن ائتلاف محدود برئاسة العمل "ويضم الحريديم لا أساس له".
أكدت التطورات السياسية اللاحقة في إسرائيل بما في ذلك انتخاب نتنياهو في مايو 1996 على صحة تحليل البروفيسور فريدمان ومن منظور حريدي آخر قام الحاخام عوفيديا يوسف الأب الروحي لحزب شاس بتعزيز هذا المقال، فقال الحاخام يوسف في مقال بتاريخ 18 سبتمبر 1989 في جريدة "ياتيد هانعمان" بأنه بما أن إسرائيل ضعيفة جداً لدرجة أنها أيضاً أضعف من أن تحتفظ بكل الأراضي التي قام بفتحها. وباستخدام هذا المنطق يدافع الحاخام يوسف عن قيام إسرائيل بتقديم تنازلات متعلقة بالأرض من أجل تجنب حرب تضيع فيها أرواح اليهود. ولم يرد في كلمات الحاخام يوسف أي ذكر للفلسطينيين ولا حتى أدنى حقوقهم، النظرة الحريدية للعالم تشبه نظرة اليمين الإسرائيلي العلماني. ونظرة سياسي لليكود للعالم التي يؤيدها أتباعه بحماس، هي تماما نظرة اليهود المتدينين، فقد شهدت بعض التحول العلماني ولكنها احتفظت بقيمها الأساسية.
أدي التحالف بين الأحزاب الدينية والعلمانية لليمين إلى انتصار نتنياهو في انتخابات 1996. وخرج هذا التحالف إلى النور على الرغم من الخلافين السياسيين العميقين بين الحزبين. الخلاف الأول يتصل بالديمقراطية وخاصة كما يظهر ذلك من خلال تركيبة الأحزاب الإسرائيلية، أم الخلاف الثاني فيدور حول الصهيونية.
وكل الأحزاب السياسية الإسرائيلية فيما عدا الأحزاب الحريدية كانت ولا تزال منشأة على غرار الأحزاب الموجودة في الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة. ومعظم الأحزاب الإسرائيلية على سبيل المثال تقوم بإجراء انتخابات أولية من أجل اختيار مرشحيها من انتخابات الكنيست، ومع ذلك فإن نظام الحزب الحريدي يكون مختلف عن ذلك وقائماً بذاته وربما يكون مناظراً فقط لما يحدث في إيران فكل الأحزاب الحريدية لديها نظام ثنائي الأطر. الإطار الأقل أهمية ويشتمل على السياسيين النشطين الذين حتى لو كانوا وزراء أو أعضاء في الكنيست فإنهم يعترفون بتواضع على الملأ بأنهم مجرد خدم للمجالس الحاخامية للحزب التي يقومون باستشارتها قبل اتخاذ أي قرار. ولا يقبل أي من السياسيين الحريديم من حزب معين أي توجيه من المجالس الحاخامية لأي حزب حريدي آخر. ومداولات المجلس يتم الاحتفاظ بها سراً وقراراته غير قابلة للمراجعة باعتبارها وحياً من السماء. وعندما يموت أحد أعضاء المجلس فإن خليفته يتم تعيينه بواسطة بقية الأعضاء. وأعضاء المجلس لا ينتخبون بواسطة الحاخامات أو عامة الناس.
كما أن أعضاء المجالس الحاخامية للأحزاب الحريدية يلقبون بواسطة أتباعهم بالحكماء، ويتخذون كل القرارات وينظرون بعين الشك إلى التركيب العادي للحزب باعتباره شيئاً معاصراً وبدعة والنظام الحزبي السياسي المعاصر بما في ذلك العضوية والفروع والانتخابات الداخلية وعناصر أخرى موجودة في الحزب الديني القومي، غائبة تماماً عن الأحزاب الحريدية. والتنافر بين الأحزاب الحريدية الذي يصل أحياناً إلى درجة البغضاء ينبثق من اعتبار "الحكماء" التابعين لكل منهم سلطات نهائية. وقد حافظ النظام الحزبي الحريدي على احتكار الذكور للحزب. وحتى اليوم لم تطأ قدم أية أنثي عتبة السياسة الحريدية. كما أدي التعنت الحريدي إلى الوقوف عقبة في وجه المزيد من تشدد "أو حريدية"-إذا جاز التعبير-قطاعات من المجتمع الإسرائيلي. وكان هناك نظام مشابه للنظام الحريدي شائعاً في المجتمعات اليهودية من القرن الثاني للحقبة المشتركة وحتى ضياع النظام اليهودي الكوميرني بسبب الدول القومية المعاصرة. وكان هدف الممارسات الحريدية ولا يزال يتمثل في الحفاظ على أسلوب الحياة اليهودية كما كان قبل الأزمنة الحديثة. فالأحزاب الحريدية، في محاولتها للحفاظ على النظام اليهودي القديم، كان عليها أن تقف في وجه تيار المعاصرة الذي جرف الحزب الديني القومي. ورد الفعل الحريدي مثل العديد من ردود الأفعال الأخرى، يتخفي دائما في الرغبة الرومانسية للعودة إلى الماضي الذي يقال دائما بأنه أجمل وأكثر أماناً لليهود من الحياة المعاصرة بشكوكها وريبها.
ويكافح المجتمع الحريدي المشرب بأفكاره الخاصة لكي يقمع كل شكوك أعضائه ولكي يؤمن بتحقيق السعادة.
إن الخلاف بين الحريديم ومعظم اليهود الإسرائيليين الآخرين حول الصهيونية هو خلاف معقد. فيتفق الحريديم والصهاينة حول القاعدة الصهيونية المهمة التي تقول بأن معاداة السامية تمثل اتجاها أبدياً لدي غير اليهود بلا استثناء، وأنه يختلف عن ظاهرة الخوف من الأجانب أو بغض الأقليات. وهذا المنظور يشبه بالطبع ما يعتقده المعادون للسامية بالنسبة لليهود. فهذا التشابه يفسر غالباً الاتصال السياسي بين بعض الصهاينة، بدءا من هرتزل والمعادين "المعتدلين" للسامية الذين كانوا يرغبون فقط في طرد التجمعات اليهودية من مجتمعاتهم أو الحد من أعداها دون قتل اليهود". ووجهات النظر المتعلقة بمعاداة السامية والمخاوف التي تدور حولها والتي يشترك فيها اليمين العلماني والحريديم تتفق مع هذه القاعدة المركزية للصهيونية على نحو أفضل من ذلك الخاص بوجهات النظر التي يعتنقها حزب العمل اليساري وأحزاب ميرتس التي تتهم دائما من قبل الليكود بأنها غير صهيونية بما يكفي.
ومع ذلك فإن الأيديولوجية الحريدية تصادم مع الصهيونية حين يتعلق الأمر بمبادئ معينة. وهناك مثالان رئيسيان لذلك يتمثلان في الأهداف الصهيونية لتجميع كل اليهود، أو أكبر عدد منهم في فلسطين وتكوين دولة يهودية. وهذه الأهداف أو العقائد تتناقض مع التفسيرات الحريدية للتلمود والتعاليم التلمودية.
وبسبب هذا التناقض المحسوس أعلن الحريديم ومازالوا معارضتهم القوية للصهيونية حيث يزعمون أن دولة إسرائيل إنما هي مجرد شتات آخر لليهود ويتجنبون استخدام الرموز الصهيونية. فكل حزب سياسي إسرائيلي يبدأ أو يختتم اجتماعاته بإنشاد النشيد القومي الإسرائيلي "الهاتيكفاه" والذي هو في نفس الوقت نشيد الحركة الصهيونية العالمة، أنما الأحزاب والمنظمات الحريدية فإنها لا تفعل ذلك ولكنها تتلو الصلوات اليهودية. وتقوم وسائل الإعلام غالباً بإدانة الحريديم لعدم إنشاد "الهاتيكفاه" في المناسبات الرسمية. وفي كل المؤتمرات الصهيونية الدولية التي عقدت في إسرائيل يتم رفع العلم الإسرائيلي فقط. أما في المؤتمرات الحريدية التي تعقد في إسرائيل فإنه يتم رفع أعلام جميع الدول التي جاءت منها الوفود حسب الحروف الأبجدية.
والمعارضة الحريدية للصهيونية تقوم على التناقض بين اليهودية الكلاسيكية "أو التقليدية" التي يعتبر الحريديم امتداداً لها، والصهوينية. وقد قام العديد من المؤرخين الصهاينة لسوء الحظ بالتعتيم على هذه القضايا. ولذلك يكون من الضروري القيام ببعض الشرح التفصيلي. ففي فقرة تلمودية شهيرة في الجزء المسمي "كيتوبوت" ص 111 والتي تتردد في أجزاء أخرى من التلمود، يقول الله أنه فرض على اليهود ثلاث مواثيق. اثنان منهما يتعارضان بوضوح مع المعتقدات الصهيونية وهما: 1- يجب على اليهود ألا يتمردوا على غير اليهود، 2-يجب ألا يقوم اليهود بالهجرة الجماعية إلى فلسطين قبل مجيء المسيح.
والميثاق الثالث والذي لن نناقشه هنا يفرض على اليهود عدم الصلاة بقوة طلباً لقدوم المسيح، حتى لا يأتي قبل موعده المحدد". وخلال التاريخ اللاحق على التلمود قام الحاخامات بالمناقشة الموسعة للمواثيق الثلاثة. وكان أحد الجوانب الجوهرية لهذه المناقشة هو السؤال القائل ما إذا كانت الهجرة الجزئية إلى فلسطين تعتبر جانباً من الهجرة الجماعية المحرمة أم لا. وأثناء الألف والخمسمائة عام الماضية قامت الغالبية العظمي من أهم حاخامات اليهودية التقليدية بتفسير المواثيق الثلاثة وواصلت اعتبار وجود اليهود في المنفي التزاما دينياً للتكفير عن الآثام اليهودية التي جعلت الله يقوم بنفيهم.
وفي الأعوام الحديثة قام عدد من الباحثين اليهود الإسرائيليين، الذين أنشأوا تاريخاً يهودياً جديداً يتسم بمقدار أكبر من الصدق بإلقاء الضوء على جوهر التفسيرات الحاخامية للمواثيق الثلاثة. ففي كتابه البحثي القيم المسمي "المسيانية والصهيونية والتطرف الديني اليهودي" "الذي نشر بالعبرية في إسرائيل عام 1993"، قدم أفيتزير رافيتسكي، على سبيل المثال تلخيصاً جيداً للتفسيرات الحاخامية للمواثيق الثلاثة بدءاً من القرن الخامس الميلادي "أو الحقبة المشتركة". وفي تحليله قام رافيتسكي بالإشارة إلى أنه في القرن التاسع قام الحاخام صموئيل، ابن هوشانا وهو أحد زعماء يهود فلسطين المهمين بالاستشهاد بما يلي في إحدى صلواته باعتبارها كلمات الله. "لقد أخذت العهد على شعبي بألا يثوروا على المسيحيين والمسلمين، وطلبت منهم أن يلتزموا الصمت حتى أنزل بهم عقابي كما فعلت في سدوم".
وفي القرن الثالث عشر أثناء الفترة التي هاجر فيها بعض الحاخامات والشعراء إلى فلسطين لأسباب دينية كما يقول رافيتسكي قام حاخامات آخرون في بقاع عددية من العالم بالاستشهاد بنظرية المواثيق الثلاثة لتحذير من انتشار هذه الظاهرة الخطرة. وقام الحاخام إليعازر ابن موشيه الزعيم الروحي للتجمع اليهودي في فوتسبرج بألمانيا في القرن الثالث عشر بتحذير اليهود الذين يهاجرون بكثافة إلى فلسطين من أن الله سوف يعاقبهم بالموت. وفي نفس الوقت تقريباً قام الحاخام عيزرا بمدينة جيرونا بإسبانيا وهو احد متصوفة القبالاه المشاهير بكتابة أن اليهودي الذي يهاجر إلى فلسطين إنما يهجر الله الذي يوجد فقط في الشتات، حيث يعيش أغلب اليهود وليس في فلسطين. كما أكد رافيتسكي في كتابه على أن هناك آراء مماثلة وحتى أكثر تطرف استمرت حتى القرن التاسع عشر وقد كتب الحاخام الألماني الشهير يوناثان أيبشوتز في منتصف القرن الثامن عشر أن الهجرة المكثفة إلى فلسطين حتى مع موافقة كل دول العالم هي أمر محظور قبل مجيء المسيح. وفي أوائل القرن التاسع عشر قام موسي مندلسون ومؤيدون آخرون للتنوير اليهودي وكذلك معارضوهم مثل الحاخام رفائيل هيرش الأب الروحي للأرثوذكسية المعاصرة في ألمانيا بالاتفاق على والاستمرار في تحريم الهجرة بناء على الموثيق الثلاثة. وتب هيرش في عام 1837 يقول: إن الله أمر اليهود "بألا يقوموا أبداً بإنشاء دولتهم بأنفسهم ومن خلال جهودهم".
وكان الحاخامات في وسط أوروبا أكثر تطرفاً. وفي عام 1837 في نفس العام الذي حظر فه هيرش على اليهود إعلان دولة يهودية، حدث زلزال في شمال فلسطين قتل الغالبية العظمي من سكان مدينة "صفد" والذين كان الكثير منهم من اليهود، وكانوا قد هاجروا حديثاً إلى فلسطين. وقد أرجع الحاخام موشيه تيتلباوم وهو حاخام بولتدي شهير هذا الزلزال إلى عدم رضاء الله عن الهجرة اليهودية الزائدة إلى فلسطين. وقل تيتلباوم: "ليست مشيئة الله أن نذهب إلى أرض إسرائيل عن طريق جهودنا ومشيئتنا". أم الحاخام موشيه نخمانيدس الذي توفي عام 1270 فقد كان الزعيم اليهودي الوحيد الذي كان يؤمن بأن اليهود يجب عليهم ليس فقط الهجرة ولكن أيضاً أن يقوموا بغزو أرض إسرائيل، وهناك حاخامات آخرون ذوو أهمية في ذاك الوقت وفي أوقات أخرى لمدة قرون عديدة تجاهلوا أو اختلفوا بقوة مع رأي نخمانيدس.
وفي سبعينيات القرن العشرين بعد سبعة قرون من وفاته أصبح نخمانيدس القديس الراعي للحزب الديني القومي ولمستوطني جوش أمونيم. كما زعم أيضاً حاخامات الحزب الديني القومي أن المواثيق الثلاثة لا تنطبق على الأزمنة المسيانية، وأنه على الرغم من أن المسيح لم يأت بعد فإن هناك عملية كونية تسمي بداية الخلاص قد بدأت.
وأثناء هذه الفترة يجب تجاهل بعض التعاليم الدينية السابقة وهناك تعاليم أخرى يجب تغييرها. وعلى ذلك فإن النزاع بين الحزب الديني القومي والحريديم قد تمحور حول قضية ما إذا كان يجب على اليهود أن يعيشوا في الزمن العادي أم في زمن بداية الخلاص. فبعد أن حصلوا على بعض المكاسب السياسية وأصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم إبان انتخابات 1988 شدد الحريديم من معارضتهم المبدئية للصهيونية وللحزب الديني القومي. وفي عام 1989 قام أهم حاخامين حريديين وهما الحاخام شاخ والحاخام يوسف بعقد مؤتمر ضد الصهيونية في بناي براك بإسرائيل، وتم نشر الخطب التي ألقياها والتي كانت مخصصة للتعبير عن معارضتهما المبدئية للصهيونية ومعتقد بداية الخلاص، في الجريدة الحريدية "ياتيدهانعمان" في 18 سبتمبر 1989. كما قام الحاخامان من منظور "الهالاخاه" أيضاً بمعالم الموضوع السياسي الإسرائيلي الحيوية المتعلق بما إذا كان يجب إعطاء بعض أراضي إسرائيل-على حد زعمهم-لغير اليهود أي الفلسطينيين كما قاما أيضاً بتفنيد وجهة نظر الحزب الديني القومي وجوش أمونيم التي تقول بأنه مع بداية الخلاص لا يجب إعطاء أرض إسرائيل لغير اليهود، وأعلن الحاخامان يوسف وشاخ أن اليهود لا يزالون يعيشون في الأزمنة العادية حيث المساعدة المرئية من الله لإنقاذ حياة اليهود غير متوقعة دائماً.
كما قام الحاخام يوسف الشهير بمعرفته الواسعة للهالاخاه، بتقديم تحليل متعمق وأشار على نحو صحيح إلى أن الحاخام شاخ يتفق معه تماماً.
واستهل الحاخام يوسف حديثه بالاختلاف مع الحزب الديني القومي وحاخامات جوش أمونيم الذي يقولون بأن بداية الخلاص وأوامر الله بغزو أرض إسرائيل هي أكثر أهمية من إنقاذ حياة اليهود الذين يسقطون في غمار حرب التحرير. واعترف الحاخام يوسف بأنه في الأزمنة المسيانية سوف يكون الهود أكثر قوة من غير اليهودي ويكون لزاما عليهم فتح أرض إسرائيل وطرد غير اليهود وتدمير الكنائس المسيحية الوثنية، ومع ذلك أكد الحاخام يوسف أن زمن الخلاص المسيحي-أي مجيء المسيح طبقاً للعقيدة اليهودية-لم يأت بعد.
وكتب يقول:
"إن اليهود ليسوا في الواقع أكثر قوة من غير اليهود كما أنهم غير قادرين على طرد غير اليهود من أرض إسرائيل لأن اليهود يخشون غير اليهود، وعلى ذلك فأن أمر الله لم يحن بعد.... فحتى غير اليهود من الوثنيين يعيشون بيننا دون أن نستطيع طردهم أو حتى نقلهم. فالحكومة الإسرائيلية ملزمة تبعاً للقانون الدولي بحماية الكنائس المسيحية في أرض إسرائيل، حتى على الرغم من أن هذه الكنائس هي أماكن وثنية وتعبد فيها الأوثان، يحدث هذا على الرغم من أن ديننا يأمرنا بتحطيم الأوثان وخدمها حتى نجتث جذورها من كل بقاع الأرض وأي مكان نستطيع الوصول إليه... ومن المؤكد أن ذلك يؤدي إلى إضعاف المغزي الديني لفتوحات جيش إسرائيل "في 1967".
إن الفقرة التي استشهدنا بها آنفا تمثل على نحو معبر جانباً من السياسة الواقعية لإسرائيل. فقبل انتخابات 1996 اعتبر كل من بيريز ونتنياهو الحاخام يوسف شخصية سياسية مهمة، وتوددا إليه على نحو غير خفي. وتم ذلك على الرغم من إعلان يوسف أن اليهود حينما يكونون أقوياء بما فيه الكفاية فإنهم ملزمون دينياً بطرد غير اليهود من البلد وتدمير كل الكنائس المسيحية وقد قام اليساريون وأنصار السلام في إسرائيل بالثناء على يوسف وشاخ بموافقتهما على الانسحاب من الأراضي المحتلة ولكنهم أغفلوا ذكر المعتقد الجوهري ليوسف وشاخ. كما أغفلت معظم وسائل الإعلام الغربية الإشارة إلى معظم النقاط الجوهرية في خطاب يوسف، والحقيقة هنا هي أن رأي يوسف-شاخ يمثل أحد جوانب عقيدة الصقور في السياسة الإسرائيلية.
كما اعترف الحاخام يوسف في خطابه أيضاً بتحريم الهالاخاه بيع العقارات لغير اليهود في أرض إسرائيل، ولكنه قصر ذلك على الزمن الذي يكون فيه فعل ذلك لا يعرض حياة اليهود للخطر. وبنفس الطريقة تعامل مع موضوع ما إذا كان يجب على اليهود أن يضعوا ثقتهم فقط في معونة الله أن يجب عليهم اتخاذ احتياطاتهم الخاصة ضد الخطر أو الحرب. وأفاد يوسف بان هذا الموضوع مناظر للسؤال الخاص بما إذا كان يجب إعطاء الطعام لليهود المريض في يوم كيبور "عيد الغفران" لإنقاذ حياته أم لا.
ففي الحالة الأخيرة، كما يقول الحاخام يوسف يجب إعطاء الطعام لليهود المريض حتى إذا اختلف الأطباء مع بعضهم البعض حول مدى خطورة الصيام على حياته. وتبعاً لهذا المنطق أشار الحاخام يوسف إلى أنه حتى لو كان الخبراء العسكريون يختلفون مع بعضهم البعض حول ما إذا كان الانسحاب من بعض الأراضي يمكن أن يمنع الحرب فإن الحكومة يجب أن تأمر بالانسحاب وأشار الحاخام يوسف دون تأثر بذريعة الثقة في الله إلى أن اليهود قد قتلوا في حروب سابقة وأن معجزة مجيء المسيح وحكمة للعالم سوف تحدث دون إراقة دم يهودي واحد. كما أشار الحاخام يوسف أيضاً إلى أن دولة إسرائيل مليئة باليهود الآثمين الذين يغضبون الله. كما استشهد بالعديد من أقوال الحاخامات الذين يتفقون معه في أن المواثيق الثلاثة لا تزال سارية.
إن وجهة نظر الحاخام يوسف لم تثر اهتمام رابين ولا بيريز ولا نتنياهو. فعملية استعراض عمله الواسع التي استغرقت ثلاث صفحات كبيرة من القطع الصغير لم تقنع حاخاما واحداً من الحزب الديني القومي. واستمر الحاخامان يوسف وشاخ، اللذان أصبحا بعد وقت قليل من ألد الأعداء في معارضة الصهيونية ومذهب بداية الخلاص كما واصلا الدفاع عن منظورهما الخاص للأصولية اليهودية وإصدار الأوامر لأعضاء الكنيست الأربعة عشر التابعين لهما في عام 1996 بالولاء لأفكارهما.
وقد قام الحاخام شاخ الأكثر تطرفاً في معارضته للصهيونية من الحاخام يوسف بمنع أعضاء الكنيست المنتمين لحزبه السياسي، ياهدوت هاتوراه من أن يصبحوا وزراء في حكومة نتنياهو الصهيونية. ومع ذلك أمر شاخ أعضاء الكنيست المنتمين لحزبه بتأييد حكومة نتنياهو وكافأ نتنياهو "ياهدوت هاتوراه" من خلال إعطائه زمام السيطرة على وزراء الإسكان فتولي نتنياهو وزراء الإسكان بنفسه وقام بالتوقيع على أي شيء يرسله له نائبه رافيتس المنتمي لحزب ياهدوت هاتوراه. وتم القيام بهذا الإجراء من أجل تجنب الانضمام الرسمي لحزب ياهدوت إلى حكومة صهيونية، وفي نفس الوقت جنبي ثمارها، وعلى النقيض من الحاخام شاخ أمر الحاخام يوسف أتباعه من أعضاء الكنيست بان يصبحوا وزراء في حكومة نتنياهو. وهذه الحقائق تعبر عن الأهمية السياسية لآراء الحاخامين سوف وشاخ.
إن قيام الحاخام يوسف بالتعبير عن رأيه بوضوح في موضوع الأراضي لا يعكس فقط وجهة النظر الحريدية، ولكنه أيضاً يعبر عن جانب كبير من السياسة الخارجية الفعلية لدولة إسرائيل. كما أعلن الحاخام يوسف عن أن اليهود لديهم واجب ديني يتمثل في طرد جميع المسيحيين من دولة إسرائيل فقط إذا كان ذلك لا يعرض حياة اليهود للخطر. كما افترض الحاخام يوسف أن أي تنازلات يهودية تقدم لغير اليهود في دولة إسرائيل يجب أن تقوم فقط على اعتبار أن رفض القيام بذلك يمكن أن يعرض اليهود للخطر.
كما يفضل الحاخام يوسف بالتأكيد الاحتلال الدائم لكل أراضي فلسطين إذا اقتنع تماماً بان ذلك لن يدفع العرب لإيذاء اليهود. كما آمن الزعماء الحكوميون الإسرائيليون مع تأييد كامل من اليهود الإسرائيليين بعد حرب يونيو 1967 بأن العرب غير قادرين على إيذاء إسرائيل ولذلك فإنهم يرفضون تقديم أية تنازلات فقد بعد المعاناة المريرة من الخسائر الجسيمة في حرب أكتوبر 1973 والخوف من حرب أخرى وافقت حكومة دولة إسرائيل، مرة أخرى مع التأييد الكامل من اليهود الإسرائيليين على إعادة سيناء إلى مصر، وفي عام 1983 حتى بعد مذابح صبرا وشاتيلا فكر القادة الإسرائيليون في الاحتلال الدائم لثلث لبنان والهيمنة على الثلثين المتبقيين. وقام شارون بإبرام اتفاقية سلام تقوم على هذين الشرطين مع الحكومة اللبنانية التي لا حول لها ولا قوة. ودفعت حرب العصابات التي قام بشنها اللبنانيون في 1984 و1985، وأدت إلى سقوط العديد من الضحايا الإسرائيليين، دفعت القادة الإسرائيليين إلى التخلي عن هذا المخطط والانسحاب. فالسياسة الخارجية الإسرائيلية، على الرغم من صياغتها وممارستها بواسطة يهود علمانيين تبدو حتى اليوم مشتقة في جانب منها من الماضي الديني اليهودي. والواقع أن الحركة الصهيونية أيضاً التي شهدت تحول علمانياً جزئياً حافظت أيضاً على الكثير من المبادئ الدينية اليهودية الأساسية. فالحاخام يوسف وبن جوريون وسارون وكل السياسية الإسرائيليين الكبار يقفون على أرضية مشتركة في الدفاع علن السياسة التي ينتهجونها.



([1]) هذه مذابح يقال أنها ارتكبت ضد اليهود في فترات التوتر في روسيا القيصرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق