الخميس، 24 سبتمبر 2009

حرب فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948


مقدمة
استمرت حرب فلسطين لمدة تقل عن عشرين شهراً منذ قرار الأمم المتحدة الذي أوصي بتقسيم فلسطين في نوفمبر 1947 وحتى اتفاقية الهدنة الأخيرة بين إسرائيل وسوريا في يوليو 1949.
وأدت هذه العشرون شهراً إلى تغيير الخريطة السياسية للشرق الأوسط إلى الأبد، والواقع أن حرب 1948 يمكن النظر إليها على أنها لحظة حاسمة في تاريخ المنطقة بأكملها، لقد تم تدمير فلسطين العربية وقامت دولة إسرائيل الجديدة وعانت مصر وسوريا ولبنان مرارة الهزيمة، وانكفأ العراق على نفسه وحققت الأردن على أفضل تقدير انتصارا باهظ الثمن، كما فقد الرأي العام العربي غير المهيأ للهزيمة، ناهيك عن هزيمة بهذا الحجم، الثقة في حكامه.
وفي غضون ثلاثة أعوام من نهاية حرب فلسطين تم اغتيال رئيسي وزراء مصر ولبنان والملك عبد الله ملك الأردن، كما تمت الإطاحة برئيس سوريا وملك مصر من خلال انقلابين عسكريين، ولم يؤثر أي حدث في السياسات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين على هذا النحو العميق، كما فعل ذلك الحدث والحروب العربية الإسرائيلية والحرب الباردة في الشرق الأوسط ونشوء الكفاح الفلسطيني المسلح وسياسة صنع السلام وكل تعقداتها هي نتيجة مباشرة لحرب فلسطين.
وتكمن أهمية حرب فلسطين في أنها كانت التحدي الأول الذي يواجه دول الشرق الأوسط حديثة العهد بالاستقلال، ففي عام 1948 كان الشرق الأوسط يتنسم أولى نسائم الحرية بعد التملص من قبضة الاستعمار، وعلى الرغم من أن إسرائيل كانت أحدث دول المنطقة نشأة حينما أعلنت استقلالها في 15 مايو 1948، فإن الدول المجاورة لها لم تكن تكبرها إلا قليلاً، وكانت مصر لا تزال مرتبطة ببريطانيا بعلاقة شبه استعمارية من خلال معاهدة 1936، ومعاهدة 1946 الخاصة بالأردن قد منحت بريطانيا سيطرة واسعة على الجيش وعلى مواردها المالية على نحو جعل المجتمع العالمي لا يرى "استقلالها"، وتم التفاوض على نصوص الاتفاقية مرة أخرى في يناير 1948، وحصلت كل من لبنان وسوريا على استقلالها من فرنسا في 1943 و1946 وحتى العراف الذي عوامل كدولة مستقلة في الفترة المتخللة للحربين العالميتين، فقد بدأ في التفاوض سراً مع بريطانيا عام 1947 لإعادة النظر في معاهدة 1930 من أجل الحد من التواجد البريطاني العسكري في العراق "المستقل".
وفي العالم العربي رسب الحكام الوطنيون المتطلعون إلى الاستقلال في أول اختبار واجههم وأخفقوا في الارتقاء بأفعالهم إلى مستوى أقوالهم وإنقاذ فلسطين من الخطر الصهيوني، وفجر هذا الفشل أزمة الشرعية التي يتمتع به هؤلاء الحكام في كل الدول العربية تقريباً.
ويلعب التاريخ دوراً أساسياً في تكوين الدولة وفي شرعية أصولها ونظامها السياسي في الشرق الأوسط وفي كل مكان آخر، وتتمتع حكومات المنطقة بالكثير من السلطات المباشرة وغير المباشرة على كتابة التاريخ. وكتب التاريخ في المدارس الابتدائية والثانوية تضعها الدولة كما أن معظم الجامعات في الشرق الأوسط تدار بواسطة الدولة ومن يقومون بالتدريس فيها هم موظفون لدى الدولة، ومؤسسات التاريخ القومية والمطابع الحكومة تعمل كأدوات ترشيح تعزل القصص التاريخية غير المعتمدة وتمرر فقط ما توافق عليه الدولة.
ولأن الترقي داخل مؤسسة التاريخ مرتبط على نحو وثيق بمدى الالتزام بالخط الرسمي لم يكن لدى المؤرخين الحافز المطلوب للكتابة النقدية للتاريخ، وبدلاً من ذلك قام معظم المؤرخين العرب والإسرائيليين بالكتابة على نحو قومي غير نقدي، وفي إسرائيل عكس المؤرخون القوميون الرؤية الجماعية للجمهور الإسرائيلي في تصويرهم لحرب فلسطين على أنها معركة يائسة للبقاء وترقي إلى مصاف المعجزات فيما تحقق فيها من نصر، وفي العالم العربي حفلت الروايات التاريخية المكتوبة عن حرب فلسطين بالتبريرات والتفسيرات الذاتية وإلقاء المسئولية على الآخرين ونظريات التآمر، وكل من المؤرخين القوميين العرب والإسرائيليين كان يدفعهم "البحث عن الشرعية"، أكثر ما يدفعهم التفسير الأمين للماضي.
فبركة الأساطير
إن عبء إضفاء الشرعية على المواقف الوطنية في حرب فلسطين في دهاليز السياسة وفي حجرات الدراسة امتزجت كتابة التاريخ بحب الوطن والإخلاص له في الشرق الأوسط، فيما يمكن وصفة بأنه "التاريخ الرسمي" وهذا التدخل السياسي في التاريخ هو جانب مشترك لدى كل من إسرائيل والدول العربية، على الرغم من اختلاف الأسباب على نحو مميز، فالتاريخ الرسمي العربي يسعي نحو تغليب مصالح الدولة من خلال حشد الجماهير المصابة بصدمة هزيمة الجيوش القومية وضياع فلسطين، بينما يسعي التاريخ الإسرائيلي الرسمي إلى إعادة التأكيد على نوع ما من القدر الصهيوني، وفي نفس الوقت يقلل من المسئولية عن الآثار السلبية للحرب.
ودفعت هذه الممارسات الجيل الجديد من الباحثون ذوي النزعة النقدية إلى النظر إلى الروايات التاريخية الرسمية لحرب 1948 على أنها أساطير ملفقة.
وبدءا من أواخر الثمانينيات حملت جماعة من الباحثين الإسرائيليين على عاتقها مسئولية تبديد الأساطير المؤسسة لإسرائيل، والتاريخ الإسرائيلي النقدي الجديد وجد ما يحفزه في الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، حينما سعت حكومة الليكود إلى خلق نوع من التواصل التاريخي بين أعمالها المثير للجدل في لبنان وأعمال الآباء المؤسسين لإسرائيل في حرب 1948.
فمن أجل الدفاع عن تصرفات حكومته، أشار مناحم بيجن رئيس الوزراء إلى سياسة بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل في عام 1948. وزعم أن الفرق الوحيد بينهما هو أن بن جوريون لجأ إلى الحيلة، بينما هو ينفذ سياسته علناً، واستشهد بمخطط بن جوريون لتقسيم لبنان من خلال إقامة دولة مسيحية شمال نهر الليطاني وجهوده التي لا تهدأ لمنع إقامة دولة فلسطينية، وقيامه أثناء حرب 1948 بالتدمير الشامل للقرى والأحياء العربية داخل حدود إسرائيل وطرد سكأنه ا من فلسطين وكل ذلك من أجل إقامة دولة يهودية متجانسة.
وملاحظات بيجن تؤدي إلى إعادة النظر في نشأة إسرائيل، فحرب الاستقلال كما تسمي في إسرائيل، كانت دائما تسمو فوق الخلافات، وبدا الباحثون مدفوعين في كثير من الأحوال بتبرئة اسم بن جوريون والتشكيك في مصداقية بيجن، وفي دراسة هذه الاتهامات المتعلقة بالتدمير الشامل للقرى وطرد السكان العرب.
وساعدهم في ذلك سياسة الأرشيف المفتوح، حيث يسمح بالإطلاع على الوثائق الحكومية بعد مرور ثلاثين عاما عليها. مما أدي إلى توافر كم عظيم من الوثائق عن حرب 1948 وما بعدها، وأثبت الأرشيف الإسرائيلي أنه الأكثر كشفاً عن الحقائق.
وقام "سمحة فلابان" بوضع أجندة العمل، حينما اختصر التأريخ لقيام دولة إسرائيل في عام 1948 إلى سبع أساطير "أو خرافات": إن الصهاينة وافقوا على قرار الأمم المتحدة الخاص بالتقسيم وخططوا للسلام، وأن العرب رفضوا التقسيم وشنوا الحرب، وأن الفلسطينيين غادروا أراضيهم طواعية على أمل العودة المظفرة، وأن الغزو العربي جعل من الحرب أمراً محتماً، وأن إسرائيل التي لا حول لها ولا قوة واجهت الدمار من جانب "جولياث" العربي، وأن إسرائيل كانت تسعي إلى السلام، ولكن لم يستجب لها أي زعيم عربي. وقام باحثون إسرائيليون آخرون بالخوض في هذه الموضوعات على نحو أكثر توسعاً وقدم "بني موريس" أول دليل موثق يثبت مسئولية إسرائيل عن طرد الفلسطينيين من منازلهم، وقام آفي شليم بقلب أسطورة جولياث العربي رأساً على عقب. وكشف النقاب بالمستندات عن مبادرات السلام المقدمة لإسرائيل بواسطة الملك عبد الله ملك الأردن وحتى بواسطة الزعيم السوري "حسني الزعيم"، كما أوضح "إيلان باب" أن بريطانيا كانت أبعد ما تكون عن محاولة منع إقامة دولة يهودية كما يزعم التاريخ الصهيوني، وأنها كانت تسعي إلى منع إقامة دولة فلسطينية، والعواقب الاجتماعية للأساطير المؤسسة للدولة قام "زائيف شترتيل" بالتمحيص فيها. وقد أثارت هذه الأعمال جدالاً واسعاً داخل إسرائيل وأصبح مؤلفوها يشكلون جماعة وعي ذاتي يشار إليها باسم "المؤرخون الجدد" كان هناك دائما اتجاه نقدي في التاريخ العربي لحرب 1948، على الرغم من أن النقد كان دائما في أي بلد موجها نحو تصرفات الدول العربية الأخرى، وكان المفكرون العرب فور انتهاء الحرب التي أطلقوا عليها اسم الكارثة أو النكبة، يسعون إلى تبرير هزيمتهم من خلال تقصير المجتمع العربي بشكل عام، وكان قسطنطين زريقة وساطع الحصري وموسي العلمي وجورج حنا من أكثر هؤلاء المفكرين تأثيرا وانتشرت أعالهم انتشاراً واسعاً في العالم العربي. ويقول وليد الخالدي أنه "على الرغم من ذلك لم تفلح هذه الكتب في استئصال شأفة ودفن أساطيرنا المتعلقة بما حدث في حرب 1948، على الرغم من انتشارها الواسع". وعلى الرغم من أن الخالدي يتعامل مع كل من التاريخ الإسرائيلي والعربي لحرب 1948 عبر نفس المنظور، فإن تلخيصه للأساطير العربية كان أكثر إسهاباً.
ويقول الخالدي: "إن الأسطورة العربية أكثر شيوعاً في أساطير حرب 1948، والأكثر استمراراً حتى اليوم، هي تلك التي تصور القوى الصهيونية على أنها كانت مجرد عصابات إرهابية أحيط بها من كل الجهات بواسطة الجيوش العربية في المرحلة الأولى للحرب "15 مايو-11 يونيو" فوصلت طلائع الجيش المصري إلى الضواحي الجنوبية لتل أبيب واقتربت القوات العراقية المتقدمة من ساحل البحر الأبيض المتوسط غرب قليقلية وطولكرم، ووصل الفيلق الأردني العربي إلى الضواحي الشرقية لتل أبيت، وكل ما كان مطلوباً هو بضعة أيام أخرى لتوجيه ضربة قاضية إلى العدو تحسم الأمر، لكن الضغوط الدولية المتصاعدة إلى تهديدات وأخطار محدقة فرضت الهدنة الأولى على العرب، وعلى ذلك انتزع الكيان الصهيوني النصر من بين أنياب الهزيمة".
واهتم الباحثون الإسرائيليون بالتاريخ العربي، ربما نتيجة لاختبارهم الذاتي لتاريخهم، واعتبر إيمانويل سيفان في تحليله للأساطير السياسية العربية تلك الموضوعات المتكررة مثل الحملات الصليبية كرمز للمعركة الدائرة بين المسلمين العرب وأعدائهم في أرض فلسطين المقدسة والأهمية الرمزية للقدس، كمثالين على ارتباط ذلك بالفكر العربي بعد حرب فلسطين، كما قام "أفراهام سيلا" الذي سبق له دراسة التاريخ العربي لحرب 1948 على نحو أكثر توسعاً بالربط بين الروايات العربية والروايات الإسرائيلية، ويقول أنه مثل الروايات التاريخية الإسرائيلية الأسبق لحرب 1948 "فإن التاريخ العربي لحرب 1948 يتكون بدرجة كبيرة من كتابات غير متخصصة تعتمد على الذاكرة الجماعية أكثر من اعتمادها على التاريخ النقدي" ولأنها لم تفلح في مجاراة إسرائيل عسكرياً أو تحقيق الأهداف القومية العربية الخاصة بتحرير فلسطين، كما يقول سيلا: "فإن تاريخ حرب 1948 هو جزء أساسي من "عمل لم يكتمل" للقومية العربية".

الدول العربية والقومية العربية:
هناك تفسير آخر للإصرار على الأساطير القومية في الروايات التاريخية العربية لحرب 1948 يكمن في التمييز بين القومية الضيقة على مستوى الدولة والقومية الواسعة على مستوى العرب، فالتجربة الاستعمارية في سنوات ما بين الحربين قد انتبهت إلى فكرة المملكة العربية الكبرى التي كانت تشغل ذهن الشريف بن على الهاشمي وأولاده في الحرب العالمية الأولى، وتقسيم منطقة الهلال الخصيب إلى دول منفصلة تحت الانتداب البريطاني والفرنسي كان يعني أن الكفاح القومي أصبح منحصراً داخل حدود الدول العربية الجديدة بدلاً من أن يجري على مستوى الكيان العربي الموحد.
وعلى ذلك تم استخدام التاريخ لغرس الروح الوطنية في نفوس المصريين والعراقيين والأردنيين واللبنانيين والسوريين، وفي نفس الوقت عدم انتزاع هويتهم القومية كعرب، وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الدول في سبيلها للحصول على الاستقلال في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ظهرت الصفوة السياسية مع مصالحها التي كانت ترغب في حمايتها داخل الحدود التي أنشأتها القوى الاستعمارية علاوة على ذلك لم يكن هناك بطل قومي للعالم العربي الموحد، ومناداة الأمير عبد الله بإقامة الاتحاد السوري الأكبر كانت تحمل القليل من الجاذبية الأيديولوجية على المستوى الشعبي، وتم النظر إليها على أنها لعبة من ألعاب التوسع الإقليمي للأردن، ونظر إلى الوحدة العربية فقط على نحو رمزي وخلال الخطاب الرسمي لكل من مصر وسوريا ولبنان والعراق، كما أن الجامعة العربية التي أنشئت في مارس 1945 لم تعمل على تجاوز المصالح الفردية للدول.
ولا يثير الدهشة أن الدول العربية التي خاضت حرب فلسطين باسم الأهداف القومية العربية كانت مدفوعة باهتمامات محلية ومصالح خاصة، وبينما كان كل الزعماء العرب يتحدثون عن حماية فلسطين العربية من التقسيم، فإن الملك فاروق وضع مصالح مصر أولاً، وكذلك الملك عبد الله فيما يتعلق بمصالح الأردن والرئيس شكري القويتلي فيما يتعلق بمصالح سوريا، وكذلك الزعماء الآخرين فيما يتعلق بمصالح بلادهم، وخوفا على الاستقرار الداخلي في بلادهم، قام العديد من الزعماء العرب بإرسال جزء صغير فقط من قواتهم المسلحة إلى "الكفاح المشترك" ضد إسرائيل ولم يخفق رؤساء الأركان العرب في التنسيق بين خطط المعارك فقط، ولكنهم رفضوا بشكل قاطع وضع قواتهم تحت قيادة دولة أخرى، وبدلاً من رفع راية الأمة العربية، أوشكت الجيوش العربية على الصراع حول حجم ومكانة وضع أعلام بلادها حينما تتجمع، في مكان واحد ولم تكن هناك أية دولة ترغب في المخاطرة بقواتها من أجل إنقاذ دولة عربية "شقيقة" تحت الهجوم الإسرائيلي، وحينما اكتفت جميعاً قامت كل دولة عربية بالتفاوض حول اتفاقية الهدنة الخاصة بها مع إسرائيل دون أي اهتمام بتنسيق عربي شامل.
وعندما حان وقت الحساب وفتحت ملفات حرب فلسطين في الخمسينيات أصبحت القومية العربية صاحبة اليد عليا في العالم العربي، فالهزيمة في فلسطين والإطاحة بالأنظمة القديمة المسئولة عن "النكبة" حشدت الرأي العام خلف العمل العربي الموحد، فالقومية العربية الآن أصبح لها بطل شعبي محبوب له كاريزما طاغية، فقد تمتع الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتأييد شعبي راسخ الجذور ليس فقط في وطنه ولكن عبر كل الدول العربية وقام القوميون العرب بصب لعناتهم فوق رأس المصلحة الشخصية الضيقة للزعماء العرب في 1948، ونظروا بعين الغضب إلى من خلفهم في الأردن وسوريا ولبنان والعراق، ومع ذلك لم يثبت القوميون العرب أنهم أكثر فعالية في تحرير فلسطين أو هزيمة إسرائيل من أسلافهم، وأدى ذلك إلى ظهور اتجاهين في كتاب تاريخ الحرب 1948، تبنت الدولة العربية التي تدافع عن نفسها "نهجا اعتذارياً من أجل التأكيد على شرعيتها السياسية" بينما نزع القوميون العرب إلى كتابة "من خلال الاستبطان الذي سعى نحو استخلاص الدروس السياسية وتعزيز التغيير الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي الجذري استعداداً للجولة القادمة ضد إسرائيل".
وكلا النهجين لم يعلق أهمية كبيرة على الدقة التاريخية في تفسير الأحداث.

ميزة المنتصر:
بينما نجد أن هناك مجالاً متاحاً لكتابة عربية جديدة لحرب فلسطين، فإن المفكرين العرب لا يجدون المادة المطلوبة لأداء هذه المهمة، وعلى نحو يختلف عن إسرائيل لا يوجد قانون الثلاثين عاماً الذي يحكم عملية الإفراج عن الوثائق الحكومية والوثائق الخاصة بحرب فلسطين لا تزال غير متاحة في مصر أو الأردن أو العراق أو سوريا أو لبنان، وليس من المتوقع أن يفرج عنها في المستقبل القريب، وأدي ذلك بالكتاب إلى اللجوء إلى المصادر المتاحة مع القيام بتفسير جديد يعكس التغييرات في الواقع السياسي على مدى الخمسين عاماً التي تفصلنا عن أحداث حرب فلسطين.
وقام المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي بكتابة سلسلة من الأعمال التي تتناول نصف قرن منذ قرار الأمم المتحدة الخاص بتقسيم وحرب 1948 بناء على الوثائق التي قام بجمعها بنفسه على مدى السنوات دون وجود إشارات إلى المراجع التي استقي منها معلوماته.
كما استعان الصحفي المصري "محمد حسنين هيكل" بيومياته الخاصة عن الحرب من أجل إعادة تقييم حرب فلسطين وحتى عندما تكون هناك وثائق متوافرة، كما في حالة أرشيف المحكمة الهاشمية في الأردن، فإن الاطلاع عليها يكون مقتصراً على نحو صارم على المؤرخين المعروفين بالولاء من أجل تحرير ونشر الوثائق التي تدعم الخط الرسمي للحكومة الأردنية فيما يتعلق بحرب فلسطين، والباحثون العرب قد لا يجدون أية مساندة في التنقيح النقدي للتاريخ القومي.
والواقع أن العديد من الدول العربية تقوم بتقييد حرية الرأي على نحو يضر بالبحث النقدي، وعلى ذلك بعد مرور عشرة أعوام من نشر أول تاريخ إسرائيلي منقح لحرب فلسطين، لا نجد أية مادة مماثلة تم القيام بها من قبل الباحثين على الجانب العربي.
إن الصلة الموجودة بين سرد التاريخ الوطني والشرعية السياسية للدولة يجعل من تحدي أية حقيقة رسمية أمراً مثيراً للجدل، والنتائج التي استخلصها المؤرخون الإسرائيليون الجدد قد أثارت جدلاً واسعاً في إسرائيل، انتقل من التجمعات الأكاديمية إلى الصحافة والرأي العام ولأن التحدي قد جاء من أكاديميين إسرائيليين، وجدوا مادتهم الأكثر إثارة للجدل في دور الوثائق الإسرائيلية أدي ذلك إلى جعل النتائج التي توصل إلها المؤرخون الإسرائيليون الجدد أكثر إثارة للدهشة بالنسبة للرأي العام داخل إسرائيل.
ومع ذلك فإن حرية هذا الجدل هي مقياس لأمن المؤسسات السياسية الإسرائيلية، إن الأمر يتطلب قدراً كبيراً من الاستقرار السياسي لكي يتم الحفاظ على حرية الرأي عندما يتعلق الأمر بالحقائق الرسمية للدولة، ربما بسبب أن إسرائيل قد خرجت منتصرة من حرب 1948، ومن صراعات عربية إسرائيلية لاحقة، فإن المؤرخين الجدد يمكنهم تحدي إجماع الذاكرة الجماعية الواقعة في أسر المؤرخين التقليديين دون تهديد شرعية المؤسسات المدنية والعسكرية لدولة إسرائيل، إن القول المأثور القائل إن التاريخ يكتبه المنتصرون لا ينطبق هنا، فإذا علمنا أن الدول العربية المهزومة كتبت تاريخها الخاص عن حرب فلسطين، ربما يكون من الأجدر القول أن التنقيح النقدي للتاريخ هو ميزة المنتصرين.
بعد مرور خمسين عاماً على حرب فلسطين، يمر على السلام بين مصر وإسرائيل عشرون عاماً وبين الأردن وإسرائيل أربعة أعوام، وتبادل الفلسطينيون والإسرائيليون الاعتراف ووضع إطار عام للسلام سمح لياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بالعودة لإقامة حكم ذاتي في قطاع غزة والضفة الغربية ومع نهاية أعمال الحرب أدي المستوى الجديد من التعامل بين العرب والإسرائيليين إلى التقليل من شأن الأهداف التي من أجل ها تم وضع التقاليد التاريخية السابقة للصراع العربي الإسرائيلي، ومع عدم توقع تحرير فلسطين أو انتظار جولة أخرى للحرب مع إسرائيل، أصبحت الأسس الأيديولوجية للتاريخ القديم غير ملائمة وأصبح التلفيق القديم للأساطير ضاراً بالتوجه الخاص بدول المواجهة السابقة.
والقول أن العرب يحتاجون إلى التمحيص النقدي لتاريخهم ليس أمراً بسيطاً لأن ذلك سوف يؤدي إلى إثارة الكثيرة من الجدل كما حدث في إسرائيل منذ عام 1988، ولكن من المفيد القول أن التاريخ الذي يفتقد المصداقية لم يعد يمثل أمراً يخدم مشروعية الدولة أو يخدم مواطنيها، والمساهمون في هذا الكتاب يقترحون كخطوة أولى أن تتم إعادة كتابة تاريخ حرب فلسطين.

إعادة كتاب تاريخ حرب فلسطين:
يقوم هذا الكتاب بإعادة اختبار دور كل المشاركين في حرب فلسطين اعتمادا على الوثائق الرسمية أينما كانت والمواد الجديدة التي ظهرت مؤخراً مثل المذكرات والمواد الأولية الأخرى المنشورة.
وتشتمل المجموعة المساهمة في هذا الكتاب على مؤرخين إسرائيليين جدد رواد وباحثين بارزين عرب وغربيين متخصصين في شئون الشرق الأوسط، من أجل إعادة كتابة تاريخ حرب 1948، من منظور كل الدول المشاركة في الحرب.
وفي كثير من الأحوال قام المؤلفون بمعالجة قضايا أثارها المؤرخون الإسرائيليون الجدد عن سير الحرب والدبلوماسية بين إسرائيل والدول العربية، ومع ذلك فإن الدراسات الخاصة بالدول العربية قد اعتمدت بشكل متعمد على المصادر المحلية من أجل إعادة اختبار التاريخ من منظور عربي، ويقدم المؤلفون أعمالهم على أمل أن يتم الإفراج عن الوثائق الرسمية الموجودة لدى دور الوثائق العربية من أجل التوصل إلى رؤية أكثر عمقاً للصراع العربي الإسرائيلي.
ويشتمل هذا الكتاب على مجموعة من الدراسات عن كل الدول العربية التي شاركت في حرب فلسطين فيما عدا لبنان، وعلى الرغم من الجهود الضخمة التي بذلها المحرران، فقد اتضح أنه من المستحيل العثور على مساهم يقوم باختبار دور لنبنا في الحرب، فالعلاقات اللبنانية الإسرائيلية تظل موضوعاً بالغ الحساسية في آخر الجبهات النشطة للصراع العربي الإسرائيلي، والذي تفاقم من خلال تاريخ التعاون المارون مع الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي لقطاع كبير من جنوب لبنان وتأثير سوريا على السياسة الخارجية اللبنانية، وهناك دراستان تم نشرهما عن "العلاقة الخاصة" الصهيونية المارونية استناداً إلى مصادر إسرائيلية، وقامت لورا إيزنبرج باختبار الدبلوماسية التي أدت إلى إبرام المعاهدة الصهيونية المارونية في عام 1996، وقام كريستن شولتز بالنظر في المحاولات الإسرائيلية المستمرة للتدخل في الشئون اللبنانية الداخلية.
وكلا العملين قد ترجم إلى العربية نشر في بيروت، على الرغم من مصادرة كتاب شولتز بواسطة الرقابة اللبنانية واتهم مؤلفه من قبل الجهات الأمنية "بالتحريض على إثارة النزاع الطائفي".
ولم يتحدث أي من الكتابين كثيراً عن الدور العسكري اللبناني في حرب 1948 والذي كان محدوداً للغاية فقد شارك بعدد رمزي من الجنود بلغ أقل من 1000 فرد عبروا إلى شمال الجليل فقط لكي يتم صدهم بواسطة القوات الإسرائيلية التي قامت بدورها باحتلال قطاع من الأرض في جنوب لبنان حتى قام الجانبان بتوقيع اتفاقية الهدنة في 23 مارس 1949، ومع ذلك لعب لبنان دوراً أساسياً مهما في الدعوة إلى الحرب، فكان رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح يتحدث بلغة خطابية عنيفة تبشر بالنصر الشامل في فلسطين، الواقع أنه تعرض للنقد من قبل الزعماء الآخرين لأنه كان الأكثر تشدداً في اجتماعات الجامعة العربية بينما كان بلده صاحب الدور الأصغر في ميدان المعركة، إن الاتجاه المحافظ للرئيس اللبناني بشارة الخوري وتشدد رئيس وزرائه وطبيعة العلاقات المارونة الصهيونية والتجارب اللبنانية في المعركة والاحتلال الإسرائيلي القصير، تقدم جميعاً مادة ثرية لتاريخ لبناني شيق لحرب 1948، الأمر الذي ربما يتطلب مناخا سياسياً أكثر ملاءمة.
إن معظم الدراسات الواردة في هذا الكتاب تعالج التاريخ القومي سواء لفلسطين أو إسرائيل أو لمصر أو للأردن أو العراق أو سوريا، وهناك استثناءان لذلك هما تقييم بني موريس لنشأة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ودراسة ليلى بارسونز الخاصة بالدروز في حرب فلسطين، وأثارت دراسة موريس الأصلية جدلاً واسع النطاق، بالنسبة لكل من الإسرائيليين الذين يعتقدون أنه يشوه سمعنه وطنه وأيضاً في أوساط الفلسطينيين الذين كان رأيهم أن الوثائق التي كشف عناه موريس تلعن التصرفات الإسرائيلية بدرجة أكبر من الاستنتاجات التي توصل إليها موريس وهي أن "مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ولدت من الحرب، وليس من خلال التخطيط".
وفي السنوات اللاحقة على نشر كتاب نشأة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، تم الإفراج عن عدد كبير من الوثائق الإسرائيلية الجديدة، وخاصة في أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي ووزارة الدفاع وعند إعادة تقييمه للخروج الفلسطيني في حرب 1948، يعالج موريس إحدى أكثر النقاط إثارة للجدل من خلال نقاد السابقين ألا وهي التفكير الصهيوني في "نقل" أو طرد الفلسطينيين من أراضيهم لكي يذوبوا في الدولة اليهودية المقترحة، ويؤكد موريس بالوثائق على تحول الفكر الصهيوني من "العشوائية" إلى "التأييد الجماعي لهذه الفكرة بدءا من عام 1937 فصاعدا مما ساهم فيما حدث في 1948" والجزء الثاني من بحثه يتناول طرد الفلسطينيين من شمال الجليل فيما عرف باسم عملية حيرام "28-31 أكتوبر 1948" مع تقديم أدلة دامغة على الجرائم الوحشية التي اقترفتها القوات الإسرائيلية ضد سكان القرى الفلسطينية، ومع ذلك يواصل موريس رفضه لربط "التفكير في نقل الفلسطينيين" بسياسة الطرد، حيث ينكر أنه "تم اتخاذ أ قرار من قبل المجالس التنفيذية للييشوف لتنفيذ سياسة الطرد الإجباري في سياق حرب 1948".
وتتحدى ليلى بارسونز هذا الاستنتاج استنادا إلى أن التصرفات الإسرائيلية تجاه الدروز، أيضاً كانت تعتمد على عملية حيرام، وتؤكد من خلال الوثائق على وجود علاقة خاصة بين اييشوف اليهود قبل قيا دولة إسرائيل والدروز في أثناء الانتداب تطورت إلى "تحالف سري في "زمن الحرب" بحلول عام 1948.
والأمثلة العديدة للتعاون الدرزي الإسرائيلي في أثناء الحرب والحقيقة القائلة أنه لم يتم طرد أي درزي من مدينته أو قريته، حسب زعمها يدحض مزاعم موريس الخاصة بعشوائية طرد الفلسطينيين والواقع أنه حتى عندما قامت إحدى القرى الدرزية الفلسطينية بنقض اتفاق ما قبل المعركة وقاتلت ضد جيش الدفاع الإسرائيلي لم يتم طرد الدروز الفاطنين للقرية بعد المعركة، فإذا كان الدروز قد سمح لهم بالبقاء من خلال تخطيط متعمد، كما تقول بارسونز، فإن هذا ينطوي "على الأقل على سياسة ملموسة لطرد المسلمين" ومن الواضح أن العدد الوفير من الوثائق المتوافر في دور الوثائق الإسرائيلية مازال يترك الباب مفتوحاً للاختلاف في التفسير بين الباحثين.
وفي دراسته الختامية يقوم إدوارد سعيد بالبحث في نتائج حرب 1948 لمدة خمسين عاماً. إن اختلال التوازن بين قوة المؤسسات والجيش الإسرائيلي من ناحية، والجهود الفلسطينية لقيام دولة فلسطينية داخل غزة والضفة الغربية يثير التساؤلات حول مدى إمكانية قرار إنشاء دولتين الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947، وأفضل الحلول للفلسطينيين، كما يقول هو في وجود دولة ثنائية الهوية، وباستثناء القليل من الأبطال سواء على الجانب الفلسطيني أو الإسرائيلي الذين يؤيدون هذه الرؤية فأنها تكون قد جاءت قبل الأوان، والواقع أنها قد يصبح لها مؤيدون كثيروالعدد بعد نصف قرن آخر حينما يقوم جيل جديد من الباحثين بإعادة تقييم حرب فلسطين في عيدها المئوي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق